على الرغم من أن الإمام الشافعي لم يكن قاضيا في مصر قط، فإن أهل مصر يسمونه "قاضي الشريعة" .. ومازال العديد من أصحاب الحاجات الذين لم ينالوا حظا من التعليم يتجهون إلى ضريح الشافعي في الحي المعروف باسمه في القاهرة، فيقدمون الظلامات، ويسألون الله تعالى أن يقضي لهم حاجاتهم، ويرد عنهم الظلم، متوسلين بالإمام الشافعي قاضي الشريعة.
وقد شاع بين أهل مصر أن الإمام الشافعي هو قاضي الشريعة، منذ قدم إلى مصر عام 199 هـ، وهو يخطو إلى الخمسين، رجلا طويلا ممشوق القامة، فارسا، أسمر كأبناء النيل، بشوشا ضاحك الوجه، مهذب اللحية، يصبغ لحيته وشعره بالحناء اتباعا للسنة، عذب الحديث، رخيم الصوت، يشع البريق من عينيه بصفاء الود لمن يراه، على الرغم مما يثقل جفنيه من أثار السهر، وطول التأمل وإعمال الفكر، وكثرة التجول بروحه وجسده بحثا عن حقائق الشريعة!!.. في ثياب خشنة نظيفة، متكئا على عصا غليظة، كأنه حاج ورع أو جواب آفاق..!
وفي الحق أن المصريين لم يخطئوا في إطلاق اسم قاضي الشريعة على الإمام الشافعي، فما كاد يطأ أرض مصر حتى بحث عن قبر الإمام الليث بن سعد فوقف عليه مستعبرا .. ثم بحث عن آراء الليث وفقهه. فوجد المتعصبين من أعداء الليث وحساده، قد أخفوا كل كتبه تحت التراب أو أحرقوها..! وظل يبحث عن كتاب "مسائل الفقه" الذي كتبه الليث بيده، وكتاب التاريخ. وكتابه في التفسير والحديث، وكتبه عن منابع النيل. وتاريخ مصر قبل الإسلام، بما حوت من أساطير وروايات تصور تاريخ الفكر المصري ومقومات شخصية أهل مصر .. فلم يعثر الشافعي على شيء من ذلك كله إلا بعض مسائل وآراء واجتهادات حفظها بعض تلاميذ الإمام الليث، وكان الشافعي قد لقي أحدهم في المدينة، وأحدهم في اليمن فتلقى عنهما بعض فقه الليث...
وأدرك المصريون أن هذا الإمام الجديد، سيحيى على إمامهم الراحل الليث ابن سعد الذي كادت أثاره أن تندثر ولما يمض على رحيله غير ثلاثة أو أربعة أعوام!! وكان أكثر ما أعجب المصريون من إمامهم الليث حرصه على الشريعة، بحيث يتحرى في كل فتوى أن يقيس على نص قرآني، أو على سنة ثابتة، أو إجماع صحيح إن لم يجد ما يطلب في النصوص أو الإجماع، بحيث يسد الطريق على من يستنبطون الحكم بما يستحسنون أو بما يرونه محققا للمصلحة .. ويشرعون بهذا السلوك في الفتيا للولاة أو القضاة الظالمين أن يحكموا بالهوى..!!
هاهو ذا إذن إمام جديد يريد أن يحيي آثار الليث، وأن يلزم أصول الشريعة فيما يستنبط من أحكام، وهو يضيف إلى فقه الليث اجتهاده الخاص، ويجادل عن الشريعة ويعلن للناس منذ اتخذ مجلسه للفتيا في جامع عمرو بالفسطاط أن القرآن فيه حكم كل شيء، وأن السنة تفصيل وبيان لما في القرآن بكل أوجه البيان، فعلى من أراد أن يجتهد أن يكون عليما بالقرآن والسنة، وقضايا الصحابة وإجماعهم، فقيها باللغة العربية، وبأسرار البلاغة فيها، وبقواعد نحوها.
ولن يبلغ هذا العلم حتى يكون قد حفظ الشعر الذي قاله العرب قبل الإسلام، وبالعربية التي كان يتحدث بها البدو وقت نزول القرآن.
فقد اعترف ابن عباس وهو عليم بالتفسير أنه لم يفهم قول الله تعالى: {فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضٍِ} (فاطر،الآية:1)حتى سمع بدوية تقول عن وليدها: "أنا فطرته"، تعني أنشأته وأوجدته .. فعلم أن كلمة فاطر بمعنى: منشئ أي خالق. فإذا اجتمع لرجل علم ذلك كله من قرآن وسنة وأقوال الصحابة، وفقه اللغة العربية حق له أن يجتهد!
والاجتهاد هو بذل الجهد، ففيه مشقة .. فإذا اجتهد العالم ليجد حكما أو ليصدر فتوى فليبحث أول الأمر في الكتاب والسنة، لأن الكتاب ـ وما السنة إلا بيان له ـ فيه كل الأوامر والنواهي، وما كان ربك ليترك الناس سدى بلا أمر ولا نهي .. فإن اجتهد العالم فهو عالم وفقيه .. فإن لم يجد الفقيه في الكتاب والسنة أو إجماع الصحابة حكما ينطبق على الأمر الذي يعرض له فعليه بالقياس .. ولا قياس مع النص ولا سبيل غير القياس إلى الأحكام التي تواجه الأمور المستحدثة التي لا نص على حكمها..
بهذا النظر جاء الإمام الشافعي إلى مصر..
على أن الحياة في مصر طالعته بفقه جديد مما أثر عن الليث بن سعد .. واجهته بكثير من الأمور المستحدثة التي لم تواجه مثلها من قبل .. وكان الشافعي حين قدم إلى مصر وأقام بها حتى توفى فيها سنة 204 هـ، كان عالما ويحفظ القرآن والحديث ويعرف إجماع الصحابة ويتقن اللغة العربية وعلومها وآدابها .. كان كل أولئك، وكان بعد رجلا عرك الحياة وبلاها، وتجول في كثير من البلاد، واجتهد وأصبح صاحب مذهب، ونشأت له من خلال هذه التجارب كلها مودات وعداوات .. كثير الأسفار ينتقل هنا وهناك ليتعلم هو ويعلم الآخرين ..
عرف الحياة منذ ولد جهادا متصلا في سبيل العيش وفي سبيل العلم .. ومن الحق أنه قدم مصر وله مذهب في الفقه ولكنه لم يكد يقيم في مصر حتى غير كثيرا من آرائه، وأعاد كتابة كتبه. فقد عرف في مصر ما لم يكن قد عرفه من قبل .. صحت عنده أحاديث كثيرة سمعها لأول مرة في مصر، نقلا عن الإمام الليث. وبهره ما استطاع أن يصل إليه وإن يتعلمه من فقه الليث وآرائه وفتاواه وعرف آراء جديدة للإمام علي بن أبي طالب لم يتح له الإطلاع عليها من قبل..
ثم إنه عرف حضارة وتقاليد وأعرافا كلها جديدة عليه، ليس كمثلها شيء مما رأى في مكة أو المدينة أو اليمن أو سوريا أو العراق .. عاين انطلاقا في الفكر مع التمسك بروح الشريعة، وتحررا في الرأي مع التزام مقاصد الشارع، ورأى أن مالك بن أنس يخالفه بعض الفقهاء في مصر متأثرين بإمامهم الليث بن سعد، وما كان يعرف أن الإمام مالك بن أنس يخالفه أحد من قبل إلا في ست عشرة مسألة، خالفه فيها أهل الرأي بالعراق ..
وناظر بعض تلاميذ الليث في خلاف إمامهم مع أستاذه مالك وأقنعه رأي الليث، وهاله ما رأى وسمع من تعصب بعض اتباع مالك في مصر وما يليها من المغرب العربي كله والأندلس للإمام مالك، حتى لقد كان الناس في المغرب والأندلس يتبركون بملابس للإمام مالك أخذها منه أحد تلاميذه، فكانوا إذا دهمهم الجفاف وتأخر المطر، وصلوا صلاة الاستسقاء اتجهوا إلى قلنسوة للإمام مالك يستسقون بها..!
ورأى الشافعي في مصر اتباع الإمام الليث يسخرون بهذا كله، ويتهمون صانعيه بإحياء الوثنية، وبالشرك بالله تعالى .. وسمع سخرية اتباع الإمام الليث من اتباع الإمام مالك حين يتناظرون .. إذ يروي اتباع الإمام الليث الحديث الشريف عن سنده إلى أن يقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرد اتباع الإمام مالك "قال أستاذنا وشيخنا الإمام مالك" .. فيقول اتباع الليث: "نقول لكم قال الرسول عليه الصلاة والسلام فتقولون بإزائه قال الإمام مالك؟ أجعلتموه في مقام الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ .. لو كان الإمام مالك رضي الله عنه حيا لأفتى بأنكم ارتددتم عن الإسلام".
كان المصريون يجلون الإمام مالك بن أنس، على الرغم من أنهم يأخذون بآراء إمامهم الليث بن سعد في خلافه مع الإمام مالك .. ولكنهم كانوا يضيقون بتعصب بعض اتباعه، ويعتبرون تعصبهم وشططهم خروجا على منهج الإمام مالك، وإساءة لذكراه، وهو الذي عاش يحمل في كل سيرته تقاليد السماحة الإسلامية وتراث الحكمة والموعظة الحسنة ..
رأى الشافعي عناصر جديدة من الرأي والفكر والحضارة في مصر، واطلع على ما أنتجته المدرسة المصرية في الفقه بزعامة الإمام الليث بن سعد الفقهاء، فبدأ يعيد النظر في كثير من آرائه .. وبصفة خاصة تلك التي اتبع فيها أستاذه مالك .. أو التي تأثر فيها فقه أهل المدينة وإمامها مالك .. فألف كتابا فيما اختلف فيه مع مالك .. ولكنه استحيا أن يصدره. ومازال قريب العهد من الجلوس إلى مالك مجلس التلميذ .. وأبقى الكتاب ينظر فيه ويعدل عاما بأسره ثم أصدره .. وعندما عوتب في هذا قال: "إن أرسطو تعلم الحكمة عن أفلاطون ثم خالفه قائلا إن صديقي والحق صديقي فإذا تنازعنا فالحق أولى بالصدقة".
بهر الشافعي إذن بما شاهد في مصر من مظاهر الحضارة والتقدم والتزاوج الفكري بين الإسلام ومعطيات الحضارات التي تشكل الوجدان المصري: الحضارات القبطية والمصرية القديمة واليونانية. وهو ما لم يعرفه من قبل .. ثم الفهم العميق لروح الشريعة الإسلامية، وتطويع الأحكام لكل مقتضيات الحاجة الإنسانية المشروعة، مما يقيم المجتمع الفاضل الذي هو هدف الشريعة ومقصدها الأسمى..
حتى إذا انتهى الإمام الشافعي من إعادة صياغة كتبه وتصحيح آرائه على أساس العنصر الجديد الذي تدخل في صياغة وجدانه وعقله. أعلن للناس أن آراءه ليست إلا التي كتبها في مصر. أما كتبه السابقة فلا يحق لأحد أن ينسبها إليه .. وكتب بذلك إلى أقرب أصحابه وتلاميذه إليه احمد بن حبل فكان الإمام احمد يقول: "خذوا عن أستاذنا الشافعي ما كتبه في مصر".
ولكن الشافعي لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بعد مشقات جسام عبر رحلة عمر كابد فيها الأهوال، حتى لقد رأى الموت رأى العين ذات مرة. وقضى عمره كله في العيش الضنك على الرغم من ارتفاع همته ولقد عبر عن ذلك بقوله:
وأحـق خـلـق الله بالـهم امـرؤ ذو هـمة يبـلى بعيـش ضـيق
ولد الشافعي سنة 150 هـ في غزة وهي السنة التي توفى فيها أبو حنيفة إمام أهل الرأي في العراق وفي هذا تمازح أحد الفقهاء من المذهب الحنفي وفقيه من المذهب الشافعي قال الحنفي "إمامكم كان مخفيا حتى ذهب إمامنا" فقال صاحبه: "ونحن الشافعية نقول لما ظهر إمامنا هرب إمامكم".
ولد في عصر كثر فيه الجدل بين أهل الحديث وأهل الرأي وتعصب كل فريق ضد الآخر، فكان من أهل الحديث من يرفض الرأي إطلاقا، ومن أهل الرأي من لا يقتن حفظ عدد صالح من الأحاديث .. وهو عصر ميز بين العالم والفقيه، أو بين العلم والفقه: فالعلم هو حفظ القرآن والأحاديث وآثار الصحابة .. أما الفقه فهو إعمال الفكر والاجتهاد والتأمل وشحذ العقل لاستنباط حكم شرعي فيما لا نص فيه .. وقد يجمع الرجل الواحد بين العلم والفقه وهؤلاء هم الأئمة العظام والفقهاء.
وقد روى عن أحد التابعين قوله: "ما رأيت أفقه من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس" وكان أهل الحديث يقفون عند النصوص لا يعدونها فإن لم يجدوا حكما فيها، لا يفتون. وأما أهل الرأي فقد نظروا في عطل الأحكام، وأسنبطوا من النصوص أحكاما لما لم يرد نص على حكمه، إعمالا للعقل، وإلحاقا للأمور بأشباهها ونظائرها إذا وجدت علة الحكم. وقد بلغ من وقوف بعض أهل الحديث عند ظاهر النص حدا أثار بهم سخرية أهل الرأي، وبلغ من انطلاق أهل الرأي في استنباط الأحكام حيث جعل أهل الحديث يتهمونهم!!
وقد سأل أحد أهل الرأي واحدا من أهل الحديث في أمر طفل وطفلة رضعا معا من ضرع شاة ثم كبرا، أيجوز لهما الزواج.
فقال صاحب الحديث: تثبت بينهما حرمة الرضاع "فسأله صاحب الرأي: "بأي نص" فقال صاحب الحديث:
"بقوله صلى الله عليه وسلم كل صبيين اجتمعا على ثدي واحد حرم أحدهما على الآخر"
فقال صاحب الرأي ضاحكا: "قال الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمعا على ثدي واحد لا على ضرع واحد" إنما يثبت الحديث بين الآدميين لا بين شاة وآدمي. فلو أنك أعملت العقل والرأي ما أخطأت. وما سويت بين المرأة والنعجة!
وكان أصحاب الرأي يتهمون أصحاب الحديث "بالعجز عن النظر، وبأنه كلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالا أو إشكالا بقوا متحيرين، ومن أجل ذلك فهم ليسوا أنصاراً للسنة، بل إن أهل الرأي اكثر انتظاراً للسنة واتباعا له من هؤلاء الذين يزعمون أنهم أهل السنة!
أما أهل الحديث فاتهموا أهل الرأي بأنهم يأخذون بالظن .. على أن مالك بن أنس إمام أهل الحديث لم يكن يرى هذا الرأي في الإمام أبي حنيفة إمام أهل الرأي فقد قال فيه: "اجتمعت مع أبي حنيفة وجلسنا أوقاتا وكلمته في مسائل كثيرة فما رأيت رجلا أفقه منه ولا أحرص منه على معنى وحجه.
"ولكن اتباع الإمامين كان فيهم من يتعصب لشيخه، ومن هؤلاء الاتباع من كان يشغل على الآخر .. حتى لقد عيروا أبا حنيفة ببعض حيله، وإن كان مالك ليضحك كلما ذكرها، ذلك "أن الموالي وهم المسلمون من أهل البلاد المفتوحة" قدموا الكوفة وكان لرجل منهم امرأة فائقة الجمال، فتعلق بها رجل كوفي. وادعى أنها زوجته، وادعت المرأة أيضا ذلك: وعجز المولى زوج المرأة عن البينة، فعرضت القضية على أبي حنيفة .. وكان من رأي أهل الحديث أن المرأة للكوفي ولكن أبا حنيفة لم يطمئن إلى الأخذ بهذا الظاهر كما صنع أهل الحديث.
ورأى أن يحقق الأمر بنفسه .. وشك في ادعاء الزوجة والكوفي فأخذ جماعة من الناس ومعهم بعض أهل الحديث، وذهبوا إلى حيث كان ينزل الموالي فنبحت كلابهم وهمت أن تهاجمهم كما تفعل مع الغرباء .. ثم عاد أبو حنيفة وأخذ الزوجة ومعها شهود من أهل الحديث، وأمر الزوجة أن تدخل وحدها إلى منازل الموالي. فلما قربت بصبص الكلاب حولها. كما تفعل بأصحابها فقال أبو حنيفة: "ظهر الحق". فانقادت المرأة واعترفت أنها كذبت .. وعادت إلى زوجها. وسخر أهل الرأي من أهل الحديث في هذه القضية ..
على هذا النحو كان الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي .. حتى أن الشافعي عندما بدأ يطلب العلم في مجالس أهل الحديث، جلس بعد الدرس في بيت صاحب له يناشدان الشعر، فأتى الشافعي على شعر الهذليين وقال لصاحبه: "لا تعلم بهذا أحداً من أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا" ذلك أن أهل الحديث كان فيهم من يغلو فيرى في حفظ الشعر ودراسة الأدب علما غير نافع .. فالعلم عند هذا النفر هو القرآن والحديث وأثار الصحابة فحسب .. أخذ الشافعي يناطح هذا كله .. ويقاوم التعصب للحديث وللرأي جميعا..
ليكون هدف المناظرة هو الوصول إلى حقائق الشريعة، لا غلبة المتناظر على خصمه .. ولكنه على الرغم من ذلك انحاز إلى أهل الحديث أول الأمر، وخاصم فيهم أهل الرأي، حتى إذا استقر به المقام في مصر تلك السنوات الأخيرة من حياته القصيرة (150 ـ 204 هـ) تعلم أن الإمام الليث كان قد اهتدى إلى مذهب وسط بين أهل الحديث وأهل الرأي، معتمدا على استيعاب يقظ لروح الشريعة ومقاصدها، فأعجب بأصول مذهب الليث وفروعه وزاد عليه وأضاف، ونقح في خمس سنوات عاشها في مص كل ما كان في مصر باسم "المذهب الجديد".
والشافعي هو محمد بن أدريس بن العباس بن شافع (وقد نسب إلى هذا الجد) ابن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف .. والمطلب هو شقيق هاشم بن عبد مناف .. وهاشم هو أبو عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وكان هاشم يقود رحلة الشتاء إلى الشام بقافلة قريش في الجاهلية ومات ودفن بغزة. أما والدة الشافعي فهي حفيدة أخت السيدة فاطمة أم الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكان الشافعي يقول: "علي بن أبي طالب ابن عمي وابن خالتي". فهو قرشي الأب والأم وكان أبوه فقيرا خرج من مكة يلتمس سعة من العيش في المدينة، ولكنه لم يجد ما يريد، فخرج بأهله إلى غزة، ومات بها بعد مولد ابنه محمد بنحو عامين. ولم تطق الأم المقام في غزة بعد وفاة زوجها، فحملت وليدها محمدا إلى عسقلان وهو ابن عامين، و كان يرابط بها جيش من المسلمين، وكانت عسقلان تسمى إذ ذاك (عروس الشام) "وخيرها دافق والعيش بها رائق".
غير أن العيش لم يرق للأرملة الصغيرة في عسقلان، فحملت ابنها محمد إلى مكة موطنها ومواطن آبائه وأجداده، ليعيش في قومه قريش، ولينال نصيبه من المال، وهو سهم ذوي القربى ولكن حظه من هذا المال كان ضئيلا لم يسمح له ولأمه إلا بحياة خشنة، عرف خلالها الحرمان منذ نعومة أظفاره.
وعندما شب الطفل ألحقته أمه بمكتب في مكة. ولكنها لم تجد أجر المعلم. "فكان المعلم يقصر في تعليم الصبي إلا أن المعلم كلما علم صبيا شيئا كان الشافعي يتلقف ذلك الكلام. ثم إذا قام المعلم من مكانه أخذ الشافعي يعلم الصبيان تلك الأشياء فنظر المعلم فرأى الشافعي يكفيه من أمر الصبيان اكثر من الأجرة التي يطمع بها منه فترك طلب الأجرة واستمرت هذه الأحوال حتى تعلم الشافعي القرآن كله وهو ابن سبع سنوات". ثم وجهته أمه إلى إتقان تلاوة القرآن وتجويده وتفسيره على شيوخ التفسير والترتيل والتجويد في المسجد الحرام .. حتى إذا بلغ الثالثة عشرة، كان قد أتقن القرآن حفظا وترتيلا وإدراكا لما يقرأ بقدر ما يتيحه عمره.
وكان عذب الصوت .. في ترتيله خشوع. وإيقاع حزين تخالجه الرهبة من خشية الله .. فكان حين يقرأ القرآن في المسجد الحرام يتساقط الناس بين يديه. ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته. فإذا رأى ذلك أمسك بعد ذلك اتجه إلى حفظ الحديث، ولزم حلقات شيوخ التفسير وأهل الحديث. وكان الورق غالي الثمن، فكأن يلتقط العظام العريضة فيكتب عليها، أو يذهب إلى الديوان فيجمع الأوراق المهملة التي ألقى بها. فيكتب على ظهرها .. كان يجد مشقة في الحصول على ورق الكتابة، فاعتمد على الحفظ وهكذا تكونت له حافظة قوية .. حتى لقد كان يحفظ كل ما يلقى عليه.
احظ أثناء إقامته في مكة أن لغة قريش قد دخلها الغريب من كلمات وتعبيرات المسلمين الجدد من الموالي غير العرب. فلم يعد لسانها هو اللسان العربي المبين..!
ثم إنه في تأمله للقرآن والأحاديث شعر بأنه في حاجة إلى زاد لغوي كبير وإلى تفهم أعمق لمعاني الكلمات وأسرار التراكيب .. وكان يشهد دروس الليث ابن سعد إمام مصر وهو حينذاك فقيه كبير يتحلق حوله الطلاب في المسجد الحرام كلما جاء حاجا أو معتمرا .. في إحدى حلقات الليث إلى جوار مقام إبراهيم، نصح مستمعيه أن يتقنوا اللغة وأسرار بلاغتها وفنون آدابها. وأن يحفظوا الشعر الذي سبق نزول القرآن الكريم وعاصره ليحسنوا فهم معاني الكتاب المنزل والأحاديث ..
ولكن نصح الإمام الليث مستمعيه أن يخرجوا إلى البادية فيتعلموا كلام (هذيل) ويحفظوا شعرهم .. فهذيل هم أفصح العرب، وشعر الهذليين عامر بكنوز اللغة. ولقد حفظ الليث نفسه أشعار الهذليين .. واستشهد بها في تفسير بعض كلمات القرآن. كما فعل ابن عباس من قبل وهو شيخ المفسرين. وخرج الفتى محمد بن إدريس الشافعي إلى بادية قريبة من مكة وعاش في مضارب خيامهم، يحفظ عنهم أشعارهم وتراكيبهم اللغوية، يرحل برحيلهم وينزل بنزولهم ويتعلم منهم.
ثم رجع إلى مكة ينشد أشعارهم، ويذكر عنهم الأخبار .. كما قال هو نفسه حتى أن الأصمعي وهو شيخ اللغويين قال وهو في أوج شهرته: "صححت أشعار الهذليين على فتى من قريش يقال له محمد بن أدريس ..لزم الشافعي هذيلا نحو عشر سنين، عكف فيها على دراسة اللغة وآدابها. وحفظ الشعر، وتعلم منهم الرماية والفروسية وبرع فيهما، حتى لقد كان يأخذ بأذن الفرس وهو يجري فيثب عليه في براعة وتمكن.!
وأتقن الرمي، حتى قال عندما تقدم به العمر: "كانت همتي في شيئين في الرمي والعلم فصرت في الرمي بحيث أصيب عشرة من عشرة "ثم سكت عن العلم، فقال أحد الحاضرين: "أنت والله في العلم اكثر منك في الرمي". عاد من البادية إذن فارسا متفوقا في البداية في الرماية، ناصع البيان، في صدره إلى جوار القرآن والحديث، ثروة ضخمة من الشعر والآداب والأخبار والفقه واللغة. وعاد يجلس إلى حلقات شيوخه في المسجد الحرام. جلس إلى أهل الحديثوالمفسرين من أتباع ابن عباس. وإلى العلماء والفقهاء من اتباع الإمام جعفر الصادق .. وكانوا جميعا ينهلون من علم الإمام علي بن أبي طالب.
وعلى الرغم من أنه قد جاوز العشرين، وأصبح يملك القدرة على اختيار شيوخه في المسجد الحرام، فقد تعود أن يسأل أمه النصيحة، فتشير عليه بأسماء الشيوخ الذي ينبغي له أن يلزمهم .. وكانت أمه حافظة للقرآن والحديث، بصيرة بأحكام الشريعة. ولقد ردت قاضي مكة حين استدعاها للشهادة هي وامرأة أخرى وأراد أن يفرق بينهما، فظلت أن تشهد الواحد أمام الأخرى. وذكرته بالآية الكريمة: أن تضل إحداهما. فتتذكر إحداهما الأخرى".
وكان الشافعي بارا بوالدته .. مستمعا لنصائحها وقد وجهته إلى فقه الإمام علي بن أبي طالب، ونصحته أن يلتمسه من تلاميذ ابن عباس وتلاميذ الإمام جعفر الصادق .. وكان مقاتل بن سليمان هو أعلاهم شأنا وأبصرهم بالقرآن وتفسيره بالحديث والفقه .. وقد توقف الشافعي وهو ينظر في تفسير القرآن عند آية: "وقد خاب من دساها" .. ولم يعرف معنى كلمة دساها، فلم تكن قد عرضت له من قبل. ولم يجد الكلمة فيما تعلم من لغة العرب. وخرج إلى ظاهر مكة يسأل فيها بطنا من هذيل، وهم أفصح العرب، فلم يجد عندهم جوابا.
وطاف على شيوخ الحلقات من أهل الأثر ومفسري القرآن، فلم يظفر بجواب شاف .. وهمه الأمر وغمه، فلاذ بأمه يسألها النصيحة فوجهته إلى مقاتل بن سليمان تلميذ الإمام الصادق وذهب الإمام الصادق وذهب الشافعي إلى حلقة مقاتل ابن سليمان فقال له مقاتل: دساها من لغة السودان "ومعناها" أغواها .. اكتمل للشافعي علم حسن بالقرآن والحديث وآثار الصحابة، وثراء لغوي يفتح مغاليق المعاني، وذوق أدبي يتيح له أن يدرك لطائف البلاغة وأسرار البيان.
وقال له أحد شيوخه: "آن لك أن تفتي".
ولكن الشافعي تهيب الفتيا، فما كان إلا شابا صغيرا في سن أبناء المفتين من أصحاب الحلقات في المسجد الحرام .. وهو بعد لم يحصل على كل ما يريد من فقه المدينة، حيث يشع علم الإمام مالك، ولا من فقه العراق حيث مازال صدى جليل من آراء الإمام الراحل أبي حنيفة يدوي في جنبات المسجد الكبير بالكوفة، وحلقات بغداد، وحيث مازال تلاميذه أبو يوسف محمد ابن الحسن وغيرهما يجادلون عن إمامهم ويضيقون إلى تراثه الجدلي.
ثم إن الفتى لم يعرف كما ينبغي فقه الأوزاعي بالشام، ولا فقه الإمام الليث بمصر .. هذا الفقه الذي اتسم بالتوفيق بين أهل الرأي وأهل الحديث، والذي يحترم الحزبين جميعا، يتميز بعمق الإدراك لروح الشريعة ومقاصد الشارع، ويواجه في يسر معجز كل ما يطرحه العصر من مسائل وقضايا. وقرر أن يرحل في طلب الفقه من كل مدارسه، كما رحل من قبل يلتمس الفصحى من خير منابعها.
وأستاذن أمه أن يرحل إلى المدينة ليدرس علي الإمام مالك فأذنت له .. كان الفتى إذ ذاك في نحو العشرين، خلبه مالك حين جاء إلى المسجد الحرام فألقى بعض الدروس، وأخذته هيبة مالك وحسن معرفته بالحديث. وعرف عن مالك أنه على الرغم من سماحته، صارم في عمله، لا يبيح وقته للناس، ولا يستقبل من يطرح باب داره خلال ساعات العمل أو الراحة .. ولكن الشافعي لا يريد أن يكتفي بحضور دروس مالك في المسجد النبوي، وهي مباحة للعامة، بل يريد أن يلزمه ليتلقى منه علمه، وليتاح له أن يسأله ويحاوره ..
ومالك لا يأذن بالحوار في دروسه ويطرد من حلقته كل من خالف تقاليد الدرس..!! ما السبيل إلى الإمام مالك إذن!؟ قرر الشافعي أن يحسن إعداد نفسه للقاء الإمام مالك .. فبحث عن كتابه "الموطأ" الذي أخرجه مالك منذ حين واضعا فيه كل فقهه وكل ما صح عنده من الأحاديث النبوية الشريفة. ووجد الشافعي نسخا من لكتاب ولكنها غالية الثمن، وهو رقيق الحال .. فاستعار الكتاب من أحد شيوخه في مكة وعكف عليه النهار والليل، حتى حفظ الكتاب، بحافظته المدربة التي تعود الاعتماد عليها منذ كان لا يجد ثمن الورق، ومنذ كان يدرس بالمكتب وهو صبي.
وزاده حفظ كتاب "الموطأ" شوقا إلى لقاء الإمام مالك وإلى صحبته..! وجهزته أمه للسفر إلى المدينة وباعت في ذلك بعض أثاث الدار .. إنها لهجرة في سبيل العلم فهي في سبيل الله .. ورأت أمه أن تسهل له لقاء مالك، فوسطت بعض أقاربها إلى والي مكة، ليعطي ولدها كتابا إلى والي المدينة، عسى أن يتوسط للشافعي مالكا ويلزمه. ويحكي الشافعي عن هذه التجربة بعد أن أخذ كتاب توصية من والي مكة إلى والي المدينة وإلى الإمام مالك.
قال الشافعي: "فقدمت المدينة، فأبلغت الكتاب إلى الوالي فلما قرأه قال: يا فتى إن مشيي من جوف مكة إلى جوف المدينة حافيا راجلا أهون علي من المشي إلى باب مالك بن أنس. فلست أرى الذل حتى أقف على بابه. فقلت: أصلح الله الأمير. إن رأى الأمير يوجه إليه ليحضر. فقال: هيهات ليت أتي لو ركبت أنا ومن معي، وأصابنا من تراب العقيق نلنا بعض حاجتنا..!
فواعدته العصر، وركبنا جميعا فوالله لكان كما قال. لقد أصابنا من تراب العقيق، (والعقيق حي بالمدينة يسكنه مالك) فتقدم رجل منا فقرع الباب فخرجت إلينا جارية سوداء فقال لها الأمير: (قولي لمولاك إني بالباب، فدخلت فأبطأت ـ ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقرئك السلام ويقول إن كانت لديك مسألة فأرفعها في رقعة يخرج إليك الجواب. وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف، فقال لها: قولي له إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة. فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي. فوضعته ثم إذا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار وهو شيخ طويل مسنون اللحية، فجلس وهو متطلس (يلبس الطيلسان) فرفع إليه الوالي الكتاب. فبلغ إلى هذا (أن هذا رجل يهمني أمره وحاله فتحدثه وتفعل وتصنع) فرمى الكتاب من يده ثم قال: سبحان الله. أو صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالرسائل؟!
فرأيت الوالي قد تهيب أن يكلمه. فتقدمت وقلت: أصلحك الله. إني رجل مطلبي "من بني المطلب) وحدثته عن حالي وقصتي .. فلما سمع كلامي نظر إلي، وكان لمالك فراسة فقال: ما اسمك: قلت محمد فقال: " يا محمد إنه سيكون لك شأن وأي شأن. إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية. إذا ما جاء الغد تجئ ويجئ ما يقرأ لك". فغدوت عليه ومعي "الموطأ" وابتدأت أن أقرأ ظاهرا (من الحافظة) والكتاب في يدي. فكلما تهيب مالكا وأردت أن أقطع، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول: (يا فتى زد). حتى قرأته عليه في أيام يسيرة". ومنذ ذلك اللقاء عام 170 هـ لزم الشافعي مالكا حتى مات الإمام مالك عام 179 هـ.
لم يتركه الشافعي إلا ليزور أمه بمكة. أو ليقوم برحلة إلى إحدى عواصم العالم والفقه .. وكان يستأذن شيخه مالك بن أنس فإذا أذن له جهزه بزاد ومال ودعا الله له. وفي المدينة التقى الشافعي بمحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة وشيخ أهل الرأي في العراق، والتقى ببعض تلاميذ جعفر الصادق، وتعلم منهم بعض فقه الإمام الصادق وأقضية الإمام علي كرم الله وجهه .. وتعلم من مذهب الإمام الصادق أن العقل هو أقوى أدوات الاستنباط حين لا يكون نص. العقل وحده هو أداة فهم النصوص لا الاتباع ولا التقليد!
وتعلم من تلاميذ الإمام الصادق رأي الإمام في حقيقة العلم .. فالعلم ليس حفظ القرآن والحديث ومعرفة الآثار فحسب، ولكنه يشمل كل العلوم الطبيعة والرياضية التي تفسر ظواهر الكون وتكشف عن قدرة الخالق. وهكذا قرر أن يتعلم تلك العلوم الطبيعة والرياضية، فتعلم من خلال رحلاته علوم الكيمياء والطب والفيزياء وتعلم الحساب والعلوم التي تجري عليها التجارب وعلم الفلك والتنجيم وهو فرع من العلوم الرياضية. وتعلم الفراسة، ومارسها.
وقد تعرف إلى عدد من فقهاء مصر من تلاميذ الليث، وكان من عادتهم بعد الحج أن يزوروا المدينة ليصلوا في الحرم النبوي وليسمعوا لمالك. وقد أملى الشافعي "الموطأ" على بعضهم ونشأت بينه وبينهم صداقة انتفع بها عندما هاجر إلى مصر ومنهم ابن عبد الحكم. ولقد رأى يوما في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر فتى جميل الوجه نظيف الثياب حسن الصلاة، فتوسم فيه خيرا، وحدثه فعرف أنه من الكوفة بالعراق فسأله: "من العالم بها والمتكلم في نص كتاب الله عز وجل، والمفتي بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال: "محمد بن الحسن وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة": فقال الشافعي: "ومتى عزمتم تظعنون؟" فقال الشاب: "غداة عند انفجار الفجر".
وذهب الشافعي إلى شيخه ليستأذنه أن يرحل في طلب العلم، فقال له شيخه مالك: العلم فائدة يرجع منها إلى عائدة. ألم تعلم بأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب؟". فلما كان السحر وانفجر، سار مالك مودعا تلميذه الشافعي عند محطة القوافل بالبقيع خارج المدينة. وصاح مالك يسأل عمن يؤجر راحلة إلى الكوفة، فقال له تلميذه الشافعي: "لم تكتري لي راحلة ولا شيء معك ولا شيء معي؟ "فقال مالك له" لما انصرفت عني البارحة بعد صلاح العشاء الآخرة، قرع على قارع الباب، فخرجت إليه، فسألني قبول هدية فقبلتها فدفع إلى صرة فيها مائة مثقال وقد أتيتك بنصفها وجعلت النصف لعيالي". وكان الطارق هو أحد تلاميذ الإمام الليث، حمله الليث هذه الهدية لصديقه الإمام مالك وكان الليث قد تعود أن يصل مالكا بالهدايا الثمينة والمال الكثير.
خرج الشافعي من المدينة وهو شاب في الثانية والعشرين، فوصل الكوفة بعد رحلة شاقة استغرقت أربعة وعشرين يوما، فاستضافه محمد ابن الحسن، وتحاور في الفقه، وحضر حلقاته وحلقات زميله أبي يوسف. وكتب الشافعي كل ما وجد عند صاحبي أبي حنيفة من فقه الإمام الأعظم، وعند ما ترك الكوفة كان معه من الكتب حمل بعير. ثم طاف في بلاد فارس، والتقى بشيوخها وجرت بينه وبينهم محاورات، ثم سافر إلى ديار ربيعة ومضر، وألم ببعض قبائل البدو، فأصاب ما عندهم من الفصحى .. وطاف في هذه الرحلة ببغداد وشمال العراق والأناضول وحران ثم سافر إلى بلاد الشام وزار أمه بمكة ..
وعاد بعد عامين إلى المدينة وقد تزود بكثير من المعارف وكان يسأل طوال الرحلة عن أخبار شيخه مالك، فعرف أنه قد اتسعت أرزاقه وأصاب الغنى، فقد أجرى عليه الخليفة راتبا كبيرا، ووصله بالأموال والهدايا الثمينة .. وقصد الشافعي الحرم النبوي، بينما هو يتهيأ للجلوس في المسجد في حلقة الإمام مالك، إذ فاح عطر المسجد فتهامس من في المسجد إنه مالك .. ورأى مالك يدخل المسجد وحوله جماعة يحملون ذيله حتى جلس على كرسيه الذي أعد له من قبل وعليه حشية ومن حوله الدفاتر. وبدأ مالك درسه فطرح مسألة على تلاميذه فلم يجبه أحد. وظل يطرح مسائل وما من مجيب.! فضاق صدر الشافعي، فنظر إلى رجل بجانبه، وهمس إليه بالجواب .. واستمر مالك يسأل والرجل يجيب بما يهمس إليه الشافعي فسأل مالك من أين لك هذا العلم؟ فقال الرجل: "إن بجانب شابا يقول لي الجواب". فاستدعى مالك ذلك الشاب فإذا هو الشافعي .. ولم يكن مالك قد استطاع أن يراه في زحام الحلقة، فرحب به مالك، وضمه إلى صدره، ونزل عن كرسيه وقال له: "أتمم أنت هذا الباب".
رضى مالك عن شرح تلميذه الشافعي، ولما انتهى الدرس، أخذه إلى بيته وأغدق عليه وحكى الشافعي لأستاذه عن كل ما تعلمه ولقيه في رحلته من طرائف. حكى له عن تجربته مع علم الفراسة، وكان مالك ينصح تلميذه ألا ينصرف إلى غير علوم الشريعة، وما يعين على الفقه بها وفهم النصوص واستنباط الأحكام، والاهتمام باللغة وآدابها، وحفظ أخبار العرب وأيامهم. وحفظ الشعر الجاهلي، لأن كل أولئك أدوات لفهم نصوص القرآن والأحاديث .. أما الفراسة ففي نفس مالك شيء منها..!
حكى الشافعي لشيخه مروحا عنه بعض ما صادفه مع علم الفراسة .. فقد مر في رحلته برجل يقف في فناء بيته، وهو رجل أزرق العينين بارز الجبين، وتأمل الشافعي ملامحه، وقال لنفسه: "إن علم الفراسة يدل على أن هذا الرجل لئيم خبيث. وكان الشافعي مجتهدا يلتمس مكانا يستريح فيه. قال الشافعي: "سألت الرجل هل من منزل؟" قال: "نعم". وأنزلني فما رأيت أكرم منه! وبعث إلى بعشاء طيب، وعلف لدابتي، وفراشي ولحاف، فقلت:
"علم الفراسة دل على غاية دناءة هذا الرجل وأنا لم أشاهد منه إلا خيرا. فهذا العلم باطل! ولما أصبحت قلت للغلام: أسرج الدابة، فلما أردت الخروج قلت للرجل: إذا قدمت مكة ومررت بذي طوى فاسأل عن منزل محمد ابن إدريس: فقال الرجل أعبد أبيك أنا؟! أين ثمن الذي تكلفت لك البارحة؟! قلت: وما هو؟ قال: اشتريت لك بدرهمين طعاما، وأداما بكذا وعطرا بكذا، وعلف دابتك بكذا، واللحاف بكذا .. قلت: يا غلام أعطه فهل بقى شيء؟ قال كراء المنزل فأني وسعت عليك وضيقت على نفسي. فضحك مالك .. وأكمل الشافعي: فعظم اعتقادي في علم الفراسة ولم يجبه مالك بغير الضحكات .. وقلما كان يضحك!
عاد الشافعي من هذه الرحلة باحترام كير للإمام أبي حنيفة النعمان فقد قرأه على صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وأعجب بطريقته في الحوار والاستنباط، وبسعة أفقه، وروى عنه كثيرا من حيله، ودافع عنه، وكانوا في الحجاز يهاجمون أبا حنيفة ويتهمونه بأنه لا يحسن علم الحديث، فنافح عنه الشافعي ووضعه في مكانه، وعلمهم أن الناس "في الفقه عيال على أبي حنيفة" ..
استقر الشافعي بالمدينة تلميذا للإمام مالك، ثم بدأت تستقيم له طريقة في الجدل، فهو يلقي بالحجة دون أن يرفع صوته، ويقول لمجادله: "خذ مكاني وأخذ مكانك" .. ويقول الرأي المضاد، حتى ينتهي من هذا الأسلوب الجدلي إلى الحقيقة. وأخذ ينتصف لأهل الرأي من أهل الحديث، وينصف أهل الحديث من أهل الرأي، ويقاوم التعصب المذهبي ..
عاش في ظل الإمام مالك ورعايته حتى مات الإمام مالك ورعايته حتى مات الإمام مالك سنة 179 هـ والشافعي في نحو التاسعة والعشرين .. وبكى الشافعي أستاذه الإمام مالك ابن أنس أحر بكاء وعكف على قراءة القرآن ملتمسا العزاء .. وشعر أنه أصبح غريبا في المدينة" لم تطلب له الحياة بعد أن توفى شيخه .. وبدأ يبحث عن مكان يعمل فيه عملا يعيش منه .. وعاد إلى أمه بمكة، مودعا المدينة من خلال الدمع.
وكان والي اليمن قد أقبل إلى الحجاز في ذلك الوقت، فتوسط بعض أقرباء الشافعي من القرشيين عند والي اليمن، فصحبه معه إلى اليمن ووكل إليه عملا. لم يكن عند أم الشافعي ما تساعد به ابنها ليتزود في سفره هذا، وليقيم في اليمن حتى يقبض راتبه، فرهنت دارا كانت لها بمكة، وسافرت معه. ولقد غضب منه أحد شيوخه بمكة وعنفه لأنه يترك الفقه من أجل الوظيفة بقوله: "تجالسوننا وتسمعون منا، فإذا ظهر لأحدكم شيء دخل فيه؟".
وتولى الشافعي عملا مهما في نجران باليمن، وهناك عاود دراسة علوم الفراسة التي كانت مزدهرة باليمن، حتى تفوق فيها. وجلس إلى بعض شيوخ الشيعة باليمن فتلقى منهم، ولزم يحيى ابن حسان تلميذ الليث بن سعد المصري وصاحبه، فأخذ عنه كل ما انتهى إليه من فقه الليث. وقام الشافعي بعمله في نجران خير قيام، وأحبه الناس لعدله، ولتمسكه بالشريعة، وإغلاق باب المجاملة والملق.
ثم أنه وجد حاكم نجران يظلم الناس .. فقام الحاكم ووقف في المسجد يحض الناس على مقاومته، وأخذ يضرب لهم الأمثال لما يجب أن تكون عليه سيرة الحاكم بالإمام علي بن أبي طالب وسيرته في الخلافة، فأثار عليه أعداء كثيرين من الذين رفض مجاملتهم. ووشى حاكم نجران بالشافعي، ودس عليه أنه أسس حزبا علويا يعد للثورة على الخليفة، ليولي أحد أحفاد الإمام على، بدلا من هارون الرشيد وأنه يؤيد الحفيد في الثورة على الرشيد.
وكان العباسيون غلاظا على العلويين، يسفكون دماءهم بالظن. فقد كانوا يعرفون أن كثيرين يرون العلويين أحق منهم ومن الأمويين بالخلافة. فزع الرشيد من قراءة كتاب والي نجران وخاصة من قوله عن الشافعي: "لا أمر لي معه ولا نهي، فهو يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه".
وفي الحق أن الشافعي ما كان يخفي حبه لعلي وللطالبيين، فقد قيل له يوما: "خالفت علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما قلت". فقال لمناظره "اثبت لي هذا عن علي بن أبي طالب حتى أضع خدي في التراب وأقول قد أخطأت وأرجع عن قولي إلى قوله" ووجد في اليمن كثيرا من الطالبيين، وحضر مجالس العلم معهم ولكنه كان يستمع ولا يتكلم فإذا سئل في ذلك قال: "لا أتكلم في مجلس يحضره أحدهم وهم أحق بالكلام مني ولهم الرياسة والفضل".
وهكذا شاع عنه حبه لبني علي، والطالبيين جميعا. قيل له إنك لمتشيع تشايع علي بن أبي طالب وتشايع بنيه من بعده ومنهم الثائر العلوي على الرشيد .. فقال: يا قوم ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )؟ رواه البخاري ( 15 ) ومسلم ( 44 )وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أوليائي من عترتي المتقون"
فإذا كان واجبا علي أن أحب قرابتي وذوي ورحمي إذا كانوا من المتقين، أليس من الدين أن أحب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا من المتقين؟ "وكتب والي نجران مرة أخرى إلى هارون الرشيد أن الشافعي يؤلب عليه الأمة وأنه يقود تسعة من الثوار، يوالون الثائر العلوي الذي يطالب بالخلافة.
فأرسل الرشيد إلى والي نجران أن يرسل إليه الثوار مهانين في الأصفاد. كانوا تسعة على رأسهم الشافعي ووضع الحديد في أرجلهم وأعناقهم تنفيذا لأمر الرشيد وسيقوا إليه مهانين .. كان الشافعي في الرابعة والثلاثين، فارسا، بطلا في رياضة الرمي، جلد قوي البنيان، ولكنه جهد من الرحلة والإهانة. وأدخلوهم على الرشيد وإلى جواره محمد بن الحسن قاضي الدولة، الذي تلقى عنه الشافعي من قبل في الكوفة.
وكان الشافعي يدعو بهمهمة يسمعها الحاضرون: "الله يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير". أنكر التسعة تهمة الثورة على الرشيد، ولكنه أمر بقطع رءوسهم جميعا وسأله التاسع أن يمهله حتى يكتب لأمة فليس لها غيره، وأقسم أنه برئ من الإعداد للثورة على الرشيد، ولكن الرشيد أمر بقطع رأسه. كل هذا والشافعي في الأصفاد: الأغلال في عنقه والحديد في قدميه، ورأسه بالرغم من كل ذلك شامخ.
ويا لله كان مجهدا.
وهاهو ذا يرى الموت رأى العين، ولكنه على الرغم من كل شيء ثابت الجنان، عميق الإيمان لا يملك إلا أن يدعو بالنجاة .. وعندما انتهى الرشيد من قتل الرجل التاسع، قال الشافعي: "السلام عليك يا أمير المؤمنين وبركاته .. " ولم يقل ورحمة الله. فقال الرشيد: "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته بدأت بسنة لم تؤمن بإقامتها، ورددنا عليك فريضة قامت بذاتها، ومن العجب أن تتكلم في مجلسي بغير أمري".
قال الشافعي: "إن الله تعالى قال في كتابه العزيز:
{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً }(النور،الآية:55) وهو الذي إذا وعد وفى، فقد مكنك في أرضه وأمنني بعد خوفي حيث رددت على السلام بقولك" وعليك رحمة الله "فقد شملتني رحمة الله بفضلك يا أمير المؤمنين".
فقال الرشيد: "وما عذرك من بعد أن ظهر أن صاحبك ـ يعني الثائر العلوي طغى علينا وبغى، واتبعه الأرذلون وكنت أنت الرئيس عليهم؟ فقال الشافعي: "أما وقد استنطقتني يا أمير المؤمنين فسأتكلم بالعدل والإنصاف، ولكن الكلام مع ثقل الحديد صعب فإن جدت علي بفكه أفصحت عن نفسي. وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدي السفلي والله غني حميد".
فأمر الرشيد بفك الحديد عنه، وأجلسه.
وقال الشافعي: حاشا لله أن أكون ذلك الرجل، قال تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ }..(الحجرات،الآية:6) لقد أفك المبلغ فيما بلغك وإن لي حرمة الإسلام وذمة النسب وكفى بهما وسيلة .. وأنت أحق من أخذ بكتاب الله. أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذائد عن دينه المحامي عن ملته وأنا يا أمير المؤمنين لست بطالبي ولا علوي وإنما أدخلت في القوم بغيا علي أنا رجل من بني المطلب ابن عبد مناف .. أنا محمد بن إدريس بن عثمان بن شافع بن السائب ..
فقاطعه الرشيد: "أنت محمد بن إدريس؟"
فقال الشافعي: "ولي مع ذلك حظ مع العلم والفقه، والقاضي يعرف ذلك. وكان محمد بن الحسن الذي استضاف الشافعي في الكوفة من قبل، قد أصبح قاضي الدولة، يجلس بجوار الرشيد فقال له الرشيد: "ما ذكرت لي محمد بن الحسن" ثم التفت إلى القاضي وسأله: يا محمد .. ما يقول هذا أهو كما يقول؟. فقال بن الحسن إن له من العلم شأنا كبيرا. وليس الذي رفع عليه من شأنه.
قال الرشيد: فخذه حتى انظر في أمره.
وهكذا نجا الشافعي برأسه .. وخرج إلى بيت محمد بن الحسن ضيفا عليه .. ومازال محمد بن الحسن بالخليفة، حتى رضى عن الشافعي، واستدعاه ليمتحن علمه. وعقد له مجلسا من أهل العلم والفقه والرياضيات والطبيعيات والكيمياء والطب.
قال الرشيد: "إنا نراعي حق قرابتك وعلمك فكيف علمك يا شافعي بكتاب الله عز وجل فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به؟".
فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين فأن الله قد أنزل كتبا كثيرة؟
فقال الرشيد: "أحسنت. لكن إنما أسألك عن كتاب الله تعالى المنزل على ابن عمي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الشافعي: "إن علوم القرآن الكريم كثيرة فهل تسألني عن محكمه أو متشابهه أو عن تقديمه أو تأخيره أو عن ناسخه أو منسوخه؟".
فأعجب الرشيد وأهل المجلس بجواب الشافعي. ثم أخذ الرشيد يسأله عن سائر العلوم الطبيعة والرياضية من طب وكيمياء وفلك وتنجيم وفراسة .. فصفق الحاضرون إعجابا بحسن إجاباته، وأجازه الرشيد بخمسين ألف دينار، فقبلها الشافعي شاكرا، وخرج إلى دار مضيفه، فلحق به أحد كبار رجال الدولة فقدم إليه صرة كبيرة بها دنانير ذهبية، فردها الشافعي قائلا: "لا أقبل عطاء ممن هو دوني إنما أقبل العطاء من الخليفة وحده". عاد الشافعي إلى دار مضيفه محمد بن الحسن، يتأمل كل الذي دار بينه وبين الخليفة.
تعلم الشافعي من المحنة ألا يزج بنفسه في صراع سياسي. وحاول محمد بن الحسن أن يجذبه ليكون في صف بني العباس، بدلا من بني علي، ولكنه أثر العافية وأقسم ألا يخوض غمرات الصراع السياسي، وألا يقبل منصبا في الدولة، فلن يهب نفسه لشيء بعد أعظم من العلم والفقه .. واعترف أنه أخطأ حين قبل المنصب في اليمن، فزج بنفسه فيما ليس من شأنه. وعكف على دراسة الطب والعلوم الطبيعة والرياضية يستكمل ما فاته منها، وأهتم بالرياضة البدنية، وعاد يتدرب على الرمي وركوب الخيل، وقسم وقته بين هذا كله وبين دراساته الفقهية ودراسة ما ترجم من ثقافات المصريين القدماء القبط واليونان والفرس والهند.
واتخذ لنفسه دارا، وبدأ يدرس فقه العراق على يد محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة. لقد درس هذا الفقه مرة عندما كان في نحو العشرين، وهاهو ذا اليوم في نحو الخامسة والثلاثين وقد أكسبته السنون خبرة، وأنضجت الدراسة والمعاناة والتأملات عقله وقلبه، يعيد دراسة فقه أبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق. ويبذل في كل أولئك من الجهد ما جعل الطبيب يحذره من السل. صاحب الشافعي محمدا يتلقى منه فقه أهل الرأي، ولم يجد في ذلك غضاضة، فقد كان دائما مشوقا إلى المعرفة، وإلى المزيد من العلم ـ وكان يقول: "من حسب أنه علم فقد ضل وجهل".
ولزم الشافعي حلقة محمد بن الحسن في بغداد، وشاهد في الحلقة مخالفة مالك، وهجوما على آرائه، وكان يستحي أن يواجه محمدا في الحلقة بخلافه معه حول الإمام مالك، فما يكاد محمد ينصرف عن حلقته، حتى يسرع الشافعي في مناظرة تلاميذ محمد، مدافعا عن فقه الإمام مالك، وعن أهل السنة، حتى لقد أطلقوا عليه في العراق اسم "ناصر السنة". وعرف محمد أن الشافعي يناظر في غيابه، فأصر محمد على أن يناظره الشافعي. وأبى الشافعي خجلا من محمد، ولكن محمد ألح عليه فتناظرا في رأي الإمام مالك في الاكتفاء بشاهد واحد مع اليمين. وظهر الشافعي على محمد في المناظرة.
ثم رجع الشافعي عن هذا الرأي عندما رحل إلى مصر، وسمع من تلاميذ الإمام الليث حجة شيخهم في التمسك بشاهدين .. فأخذ الشافعي برأي الليث .. أعجب محمد بالشافعي، وولع بمناظراته، وأعجب الشافعي بعلم محمد وبخلقه العلمي، فما كان يغضب إذا غلبه مناظر، وما أسرع ما كان يعترف لمناظره بالصواب إن اقتنع بحجته.
قال عنه الشافعي: "ما رأيت أحدا سئل في مسألة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن". وقد بلغ من حب محمد للشافعي، أنه كان على موعد مع الخليفة، إذ بالشافعي أمام دار محمد، فنزل محمد عن دابته، وقال لغلامه اذهب فاعتذر. وأخذ بيد الشافعي، فقال الشافعي: "لنا وقت غير هذا" فقال محمد: "لا". ودخل به داره يتناظران ويتدارسان.
وعلى الرغم من أن محمدا من أهل الرأي من اتباع أبي حنيفة والشافعي من اتباع مالك شيخ أهل السنة ـ وبين أبي حنيفة ومالك خلاف كبير في الأصول والفروع ـ على الرغم من ذلك فإن محمدا كان يمدح لتلاميذه علم الشافعي وسألوه لماذا يؤثر الشافعي عليهم على الرغم من خلافهما فقال: لتأنيه وتثبته في السؤال والاستماع. أثرت الحياة الفكرية في بغداد ثراء عظيما بمحاورات الشافعي ومحمد بن الحسن، وكانت مثالا لأدب المناظرة، وبراعة المتناظرين. لكم كان الشافعي عفيف اللسان فهو لا يسيء إلى أحد ولا يحب أن يذكر أحد بسوء أمامه. قال له أحد أصحابه فلان كذاب. فقال: لا تقل (كذاب) بل حديثه غير صحيح.
وكان يعظ أصحابه: "نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به ـ فإن المستمع شريك القائل. والشافعي على الرغم من خلافه مع أبي حنيفة إمام الرأي كان إذا سئل عن مكانته بين فقهاء العراق ـ ومنهم أهل الحديث ـ قال: "سيدهم" ولعل أروح محاوراته مع محمد بن الحسن، هي تلك التي دارت حول الغصب.
قال محمد للشافعي: "بلغنا أنك تخالفنا في مسائل الغصب" "فقال الشافعي" أصلحك الله إنما هو شيء أتكلم به في المناظرة فإني أجلك عن المناظرة. ولكن محمدا صمم على أن يناظره فسأله: "ما تقول في رجل غصب ساحة وبني