اجتمعت الأسرة الصغيرة ذات مساء. كما تعودت بعد كل صلاة عشاء. تتذاكر أمور الحياة والدين فيحكي الأب عما صادفه وجه النهار في متجره الصغيرة الذي يبيع فيه الحرير، وعما عرض له خلاف البيع والشراء من واقعات. ويشرح لأولاده ولأم البنين ما حفظه عن أبيه عن جده الصحافي من أحاديث وآثار، وتأخذ الأسرة باستيعاب ما يقول. وفي تلك الليلة ألقى الأب سؤالا في الدين على أفراد أسرته فاحسنوا الإجابة إلا ولده الأصغر مالكا..
كان في نحو العاشرة، قد حفظ القرآن وبعض الأحاديث، وامتلأت آفاقه بنور الكلمات، ولكن عقله لم يكن قد استطاع أن يعي ما فيها .. وكان مالك لنضارة سنه يحب أن يرتع ويلعب. وغضب أنس على ولده الصغير مالك لأنه أخطأ في الإجابة على سؤال في الدين، ونهزه لأنه مشغول باللعب مع الحمام، وهذا يلهيه عن العلم!. وبكى الصبي كما لم يبك من قبل، وفزع إلى أحضان أمه يسألها الحماية والنصيحة، ويستعينها على ما هو فيه.
ونشطت أمه من غدها بعد صلاة الفجر فأدخلته الحمام، وطيبته وألبسته احسن ثياب وعممته، ودفعت به إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتلقى العلم، واختارت له حلقة "ربيعة" من بين سبعين حلقة تلتف حول أعمدة المسجد النبوي يقوم عليها سبعون من أساطين العلم .. "ربيعة" هو حينذاك اكبر فقيه يجتهد رأيه ليستنبط الحكم عندما لا يجده في نص قطعي الدلالة .. وهو اكثر العلماء دعوة إلى الاجتهاد والأخذ بالرأي من أجل ذلك سمي ربيعة الرأي.
ويتعود الصبي بعد ذلك طيلة حياته أن يستحم ويتطيب ويلبس خير ثيابه كلما جلس يتعلم أو ليعلم. ولكم عجب رواد المسجد لذلك الصبي الأشقر يفوح منه الطيب في عمامة الشيوخ وهو يمسك بلوح يكتب فيه كل ما يقوله "ربيعة" ويشرب بعينيه وأذنيه مسائل صعبة من اجتهاد ربيعة الذي لم يكن يروي أحاديث يمكن أن تحفظ، بل يلقي بفتاوى واستنباطات يحتاج فهمها إلى عقل ناضج، ورأس كبير جدير بالعمامة التي يحملها.
ومنذ ذلك اليوم من أوائل القرن الثاني للهجرة أخذ مالك نفسه بالمشقة في طلب العلم .. نصحته أمه أن يذهب إلى المسجد النبوي، فيجلس إلى "ربيعة" ليأخذ من علمه قبل أدبه .. وكان ربيعة مشهورا في المدينة بفقه الرأي .. ولكن الصبي لم يعكف على ربيعة وحده، فقد بهره ما في الحلقات الأخرى من فنون المعارف .. فتنقل بين حلقات الفقهاء .. يحفظ القرآن ويصغي إلى تفسيره في هذه الحلقة أو تلك .. ثم ينتقل إلى حلقات أخرى فيحفظ منها الأحاديث النبوية ويستوعب تأويل الأحاديث. ويتلقى فتاوى الصحابة من شيخ، والرد على ما يثار من أفكار وآراء في العقائد من شيخ آخر .. ثم يعود إلى ربيعة أو غيره من الشيوخ الذي يجد لديهم علما أغزر.
كان يحمل معه حشية تقيه برد المسجد إذا كان الشتاء، وما كان يكتفي بما يتعلم في المسجد بل يلتمس الشيوخ دروهم يستزيد من علمهم ويصبر على ما في بعضهم من حدة .. ولقد ينتظر أحد الشيوخ في الطريق ساعات ما يجد فيها شجرة تقيه الهاجرة حتى إذا رأى الشيخ يعود إلى داره انتظر لحظة ثم قرع عليه بابه. ولقد يملأ أكمامه بالتمر يهديه لجاريه أحد الفقهاء لتمكنه من الخلوص إلى المعلم المنشود. وكان مالك إذا جلس ليستمع للأحاديث وهو صبي يحمل معه خيطا فيعقد مع كل حديث عقدة .. حتى إذا كان آخر النهار، أعاد على نفسه الأحاديث وعد العقد .. فإن وجد نفسه قد نسى شيئا قرع باب الشيخ الذي سمع منه الأحاديث فيحفظ منه ما نسى.
انقطع مالك لطلب العلم، ومات عائله وشب الفتى وأصبح عليه أن يعول نفسه وزوجته وبنته .. وكانت به تجارة بأربعمائة دينار ورثها عن أبيه. ولكنه كان مشغولا عنها بطلب العلم فكسدت تجارته، واضطر إلى أن يبيع خشبا من سقف بيته ليعيش هو وأسرته بثمنه، وكان الجوع يعضه ويعض زوجه وابنته فتصرخ الطفلة من الجوع طيلة ليلها.
فيدير أبوها الرحى ولا يسمع الجيران صراخها .. ولما قد بلغ أوج شبابه، وجد نفسه عاجزا عن توفير ما يكفي أهل بيته إلا أن يضحي بطلب العلم ..
فانفجرت أولى صرخات اجتهاده وناشد الحاكمين أن يمكنوا أهل العلم اجتهاده وناشد الحاكمين أن يمكنوا أهل العلم من التفرغ للعلم، وأن يجروا عليهم رواتب تكفل لهم الحياة الكريمة .. غير أن أحدا لم يلتفت إليه، فقد كانت الدولة الأموية التي عاش شبابه في ظلها مشغولة بتثبيت أركانها، وبتآلف قلوب شيوخ أهل العلم دون شبابهم. والتقى به في تلك الفترة طالب علم شاب من أهل مصر هو الليث بن سعد .. كان قد ألف أن يحج ما بين عام وعام ويزور المدينة ويجلس إلى حلقات الفقهاء في الحرم النبوي، وقد أعجب كل واحد منهما بذكاء صاحبه ونشأت بينهما علاقة احترام متبادل، ألقى الله في قلبيهما مودة ورحمة .. ولاحظ الليث بن سعد أن صديقه ـ على الرغم من أناقة ثيابه ونظافتها، وعلى الرغم من رائحة المسك والطيب التي تسبقه ـ فقير جهد الفقر، وإن كان ليداري فقره تعففا وإباء!..
وكان الليث واسع الغنى، فمنح صاحبه مالا كثيرا وأقسم عليه أن يقبله. وعاد الليث إلى وطنه مصر وظل بها يصل صاحبه مالك بن أنس بالهدايا وبالمال، حتى أصلح الملك حال مالك ووجد من الخلفاء من يستجيب إلى ندائه المتصل أن تجري الرواتب على أهل العلم. ولقد سئل مالك عن عدم السعي في طلب الرزق والانقطاع إلى العلم فقال: "لا يبلغ أحد ما يريد من هذا العلم حتى يضر به الفقر ويؤثره على كل حال .. ومن طلب هذا الأمر صبر عليه..!
وفي الحق أنه ظل طالب علم بعد أن أصبح فقيها كبيرا يسعى إليه الناس ومن كل أقطار الأرض وإلى أن توفى سنة 179 هـ وهو في نحو السادسة والثمانين. ولقد ظل يعلم الناس، عندما جلس للعلم، أن يتحرجوا في الفتيا وفي إبداء آرائهم، فإذا كان الفقيه غير مثبت مما يقول فعليه في شجاعة أن يعترف بأنه لا يدري. ذلك أن الفتيا لون من البلاء لأهل العلم. فمن حسب نفسه قد أوتي العلم كله، فهو جاهل حقا .. وشر الناس مكانا هو من يضع نفسه في مكان ليس أهلا له. وإن رأى الناس غير ذلك، فصاحب العلم أدرى بنفسه، وللرأي أمانته.
ويحكى أن رجلا جاءه من أقصى الغرب موفدا من أحد فقهائها، ليسأل مالك ابن أنس عن مسألة .. فقال مالك: "أخبر الذي أرسلك أن لا علم لي بها، فأخبره الرجل أنه جاء من مسيرة ستة أشهر ليسال عن هذه المسألة. فقال مالك: "وما أدى وما ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا وما سمعنا أحداً من أشياخنا تكلم فيها ولكن تعود غدا". وظل مالك يفكر في المسألة ويقرأ ما يمكن أن يتصل بها حتى إذا كان الغد جاءه الرجل فقال له مالك: "سألتني وما أدري ما هي" فقال الرجل "ليس على وجه الأرض أعلم منك وما جئتك من مسيرة أشهر إلا لذلك" فقال مالك: لا أحسن.
بهذه الأناة والتحرج كان مالك يعالج الفتيا. ولقد عاش في المدينة المنورة طيلة حياته منذ ولد فيها نحو سنة 93 هـ إلى أن ثوى تحت ثراها آخر الدهر. لم يبرحها قط إلا لحج أو عمرة .. كان مالك يجد في المدينة ريح النبوة، ونفحات علوية من أنفاس الرسول حتى لكأنه يستنشق كل خفقة من أنسام مدينة الرسول جلال الأيام الباهرة الخالية:
أيام النور والوحي والبطولات والفرقان.
ومازال أهل المدينة يصغون كما كانوا يصغون في زمن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" والصحابة الأوائل .. إنهم ليتوارثون سنته الشريفة في القول والعمل، الآباء عن الأجداد .. آلافا عن آلاف حتى لقد صح عنده أن عمل أهل المدينة في عصره سنة مؤكدة، وأنه بالاعتبار عند الفتيا والقضايا من أحاديث الآحاد...
إنه لعاشق لمدينة رسول الله كما لم يعشق أحد مدينة من قبل ولا من بعد، يكاد يحمل لها من التعظيم ما يحمله للرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ولصاحبته. حكى الشافعي أنه رأى على باب مالك هدايا من خيل خراسانية وبغال مصرية فقال الشافعي "ما احسن هذه الأفراس والبغال" فقال مالك: "هي لك فخذها جميعا" قال الشافعي: "ألا تبقي لك منها دابة تركبها؟" قال مالك: "إني لأستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة".
وفي الحق أن الحياة في المدينة كانت تناسب طبيعة مالك .. فقد ظلت المدينة بعيدا عن مضطرب التيارات الفكرية التي تصطحب غيرها من مدائن المسلمين، فهي تعيش على السنن المتوارثة وتنأى بنفسها عن صراع العقائد، والجدل الفلسفي، وكلام الباحثين فيما وراء الغيب، وكل ما أنتجته ترجمة الفلسفات اليونانية والهندية والفارسية، إنها حقا قرية مؤمنة ورب غفور .. ومالك بن أنس رجل يحب الدعة وينشد السكينة، ويعكف على الدرس المطمئن. وهو يكره الجدل واللجاج والصخب والمناظرة، والكلام فيما لا ينفع الناس في حياة كل يوم.
وكان يقول لمن سافر لمن يريدون الجدل في العقائد "تجادلوا .. وكلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل، وغير الإنسان دينه". وكان مالك لا يحب أن يخوض غمرات الصراع السياسي .. وكانت المدينة بالقياس إلى غيرها من بلاد المسلمين أكثرهن بعدا عن الثورات والفتن ومناهضة الحكام. ولقد بلغ نفوره من الجدل حدا جعله يصد عنه هارون الرشيد عندما لقيه في المدينة وطلب منه أن يناظر أبا يوسف صاحب أبي حنيفة.
فقال مالك مغضبا: "إن العلم ليس كالتحريش بين البهائم والديكة" كان مالك يعتقد أن الجدال في الدين مفسدة للدين. وقال: "إن الجدل يبعد المتجادلين عن حقيقة الدين. إن المراء والجدل في الدين يذهبان بنور العلم من قلب المؤمن "وسئل" "رجل له علم بالسنة ألا يجادل عنها؟" فقال "يخبر بالسنة فان قبل منه، وإلا سكت."
على أن الأفكار الجديدة اقتحمت على مالك وأهل المدينة حياتهم، وفرضوا عليهم النظر فيها، فقد كان أصحابها يذهبون إلى الحجاز للحج والعمرة وللزيارة .. وكان على مالك وأهل العلماء في المدينة أن يناظروا فيما هو مطروح من أفكار وكلام. وصفات الله. كيف يرى يوم القيامة وخلق القرآن .. والقدر والجبر والاختيار. وفرضت القضايا نفسها على فقهاء الحجاز .. أما مالك فقال: "الكلام في الدين أكرهه وأنهى عنه ولم يزل أهل بلدنا (المدينة) يكرهونه وينهون عنه .. نحو الكلام في القدر والجبر ونحو ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل. "وما تحته عمل من الدين هو ما يفيد الناس في الأصول. أما العقائد فقد نهى عن الجدل فيها وقد فسر مالك كل آية تتحدث عن العداوة والبغضاء التي تقع بين عباد الله، بأنها الخصومات للجدل في الدين.
وكان مالك يتساءل عن جدوى هذه الأفكار المبتدعة عن ذات الله وصفاته والجبر والاختيار؟ وخلق القرآن؟ وما عساها تحقق من مصالح أو تدفع من مضار؟ إنه لأولى بأهل العلم أن يشتغلوا بالحكمة .. والحكمة التي جاءت كثيرا في القرآن هي ـ في رأي مالك ـ في دين الله والعمل به...
ولقد أطلق مالك على أصحاب الكلام في العقائد والجبر ونحو ذلك من أصحاب بدع وقال عنهم إنه ما عرف أشد منهم سخفا ولا حمقا .. فما جدوى الكلام فيما يتكلمون فيه؟ ماذا يحقق جدل كهذا من مصالح للعباد؟ .. إن المعتقدات يجب ألا تكون موضوع كلام وعلى المسلم العاقل أن يسلم بها تسليما مطلقا، وأن يجعل همه إلى ما وراء ذلك مما ينفع الناس، ويمكث في الأرض يدفع عنهم الضرر والمفاسد، ويضبط لهم علاقاتهم وحياتهم ومعاشهم بما يستنبطه من أحكام الشريعة.
فليسأل أهل العلم أنفسهم ما هو مقصد الشريعة الإسلامية وما هدفها؟ .. وليتقوا الله حق تقاته وهم يجيبون على هذه المسألة .. أهو في الشريعة الإسلامية يتخاصم الناس ويتمارون حول القدر وخلق القرآن ورؤية الله والجبر والاختيار؟ .. وبهذا تنصرف العقول عن التفكير فيما ينفع الناس؟ .. لا بل إن هدف الشريعة هو إقامة العمران في هذا العالم وتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة ...
من أجل ذلك فقد وجب على العلماء والفقهاء أن يبصروا الناس بما يحقق المصلحة ويقيم عمارة العالم. وبما يدرأ عنهم المفاسد وبما يضبط أمورهم على أركان ركنية من العدل والتقوى وصلاح الأمور. والأحكام التي تحقق مقاصد الشريعة منصوص عليها في القرآن والحديث، ويجب التعرف عليها بكل طرائق الفهم والتفسير، وتدبر ما وضح وما خفي من دلالات النصوص، فإن لم يسعف النص في مواجهة ما يستجد من أحداث، فلينظر الفقيه في إجماع الصحابة ليستخلص الحكم، ففي إجماع الصحابة حجة كالسنة المؤكدة، فإن لم يجد الفقيه ما يشفي فلينظر في عمل أهل المدينة لأنهم تلقوه آلاف عن آلاف عن الرسول صلى الله عليه وصحابته .. فإن كان ما استجد من قضايا لا حكم قضية سابقة وأورد به نص إن توافرت العلة في القضيتين فان تعارض هذا القياس مع مصلحة فليفضل الحكم الذي يحقق المصلحة استحسانا له .. فهو الأحسن. وإن لم يسعفه القياس فلينظر في عرف الناس وعاداتهم إن لم يكن مخالفا لما أحله .. فإن لم يجد فلينظر أين المصلحة .. وليجعل تحقيق المصلحة هو مناط الحكم.
على أن مالك بن أنس لم يوفق إلى هذه الأفكار ويدلي برأي إلا بعد أن أصبح صاحب حلقة يدرس فيها. فهاهو ذا مالك بن أنس تجري به السنون لتعدو الأربعين، وقد يلزم الفقهاء نحو ثلاثين عاما، فتلقى عنهم الأحاديث النبوية، ومحصها وحقق إسنادها وتدارس معهم ما ينبغي لاستنباط الأحكام التي تواجه قضايا لم تعرض من قبل، وتعلم منهم الكتاب والحكمة، وتفكر في خلق السماوات والأرض وأحوال العباد، وتدارس معاملات الناس، فتكون له رأي خاص، واستقل بنظره في كل أمور الدنيا والآخرة اتبع في بعضه السنة وأفكار السلف الصالح وعمل أهل المدينة وأعرافها وعاداتها.
واستنبط الأحكام في بعضه الآخر بما يحقق المنفعة ويدرأ المفسدة. جاء الوقت الذي ينبغي له فيه أن يجلس إلى أحد أعمدة الحرم النبوي، ويجعل له حلقة خاصة يفتي فيها الناس ويعلمهم ما علم رشدا ويطرح عليهم ما تكون له من فقه وما استقر عنده من تأويل الأحاديث. وكان مالك قبل أن يجلس ليعلم الناس ويفتيهم، وقد اختلف مع أستاذه ربيعة، فرأى مالك أن يستقل بحلقة، أقترحها عليه مشايعوه، غير أنه لم يفعلها من فوره بل طاف على سبعين من أصحاب الحلقات والشيوخ في المسجد النبوي، يعرض عليهم فقهه، ويستأذنهم في أن يجلس ليعلم الناس.
وأجازه له أساتذته لم يختلف على إجازته أحد، اختار المكان الذي كان يجلس فيه عمر بن الخطاب ليستروح منه جلال الأيام الرائعة الماضية، حين كان كل الصحابة يعيشون في المدينة المنورة .. أمسكهم فيها عمر لا يبرحونها إلا بإذنه، لكي يعلموا الناس، ولكي يستشيرهم إذا احتاج الأمر، ولكيلا يفتن بهم أهل الأقطار الأخرى من حديثي العهد بالإسلام.
وكان مالك بن أنس من قبل قد اختار سكنا له دار الصحابي عبد الله بن مسعود، ليخفق منه القلب بنبضات عصر النبوة .. ذلك العصر المضيء بنور الإيمان والمعرفة والشوق المقدس العظيم إلى صياغة عالم جديد من الطهارة والإخاء والنبل والعدالة والحرية والسكينة والنعيم ..
لقد أثث مالك بن أنس داره بأجمل أثاث، وزينها بأحسن زينة وملأ أجواءها بعرف البخور المعطر. ذلك أن الحياة أقبلت عليه .. فنال راتبا كبيرا من بيت المال، ثم توالت عليه هدايا الخلفاء فقد اقتنع الخلفاء برأيه في أن أهل العلم يجب ألا يشغلوا عنه بالسعي في طلب الرزق، بل يجب أن يكون لهم نصيب من بيت المال، فينال منه رواتب منتظمة كبيرة، كما ينال قواد الجيش الذين يقومون على حماية الأمة وسد الثغور .. فنشر العلم سد للثغور الروحية أمام الجهل، والتوفر على نشر العلم جهاد. وإذن فينبغي أن يكون لكل من العالم وطالب العلم جزاء المجاهدين كل بقدر ما يكفيه.
إن العلماء ليحمون أرواح الناس وعقولهم من الضلال، فمن واجب ولي الأمر أن يوفر لهم من المال ما يكفل لهم الحياة الكريمة والمظهر اللائق الحسن كخير ما ينعم به الولاة والأمراء وحماة الثغور. على أنه كان يغدق من راتبه ومما يتلقى من هدايا على الفقراء من طلاب العلم يعطيهم ما تيسر من المال ويطعمهم أشهى طعام .. وكان حفيا بمأكله يختار الأطايب من كل صنف وكان مولعا بالفاكهة وخاصة الموز ويقول عنه: "لا شيء اكثر شبها بثمرات أهل الجنة منه، لا تطلبه في شتاء ولا صيف إلا وجدته .. قال تعالى { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } (الرعد ،الآية: 35) .
وكان يحض تلاميذه على الاهتمام بحسن التغذية، فالغذاء الجيد يبني الجسم السليم .. والعقل السليم في الجسم السليم. ومكابدة العلم تحتاج إلى عقول نشطة تصونها أجساد قوية .. وهكذا عاش منذ بدأ يجلس للإفتاء والتدريس: جسد قوي، عقل نفاذ .. طعام حسن ومسكن جيد وثياب أنيقة بيضاء من خير ما تنتجه مصر وخرسان وعدن.
وألف الناس كلما دخلوا المسجد النبوي بعد صلاة الفجر أن يجدوا رجلا مهيبا طويلا فارعا أشقر، أبيض الوجه، واسع العينين، أشم الأنف، كبير اللحية، مفتول الشارب، يتخذ مكانه في هدوء، ويتحدث في صوت عميق صادق مستندا إلى عمود ومن حوله حلقة من تلاميذه، كأن على رؤوسهم الطير. فإذا دخل غريب وألقى السلام لم يرد عليه أحد إلا همسا .. فإذا سأل ما هذا؟ قيل له في صوت خفيض إنه الإمام مالك بن أنس. فقد كان يفيض إذا تكلم، وينفذ بصدقه إلى القلوب .. ولم يكن جهير الصوت، فكان تلاميذه يكادون يمسكون بأنفاسهم لكيلا يفوتهم حرف مما يقول.
وكان قد خصص أياما لشرح الأحاديث النبوية الشريفة، وأياما للمسائل والفتيا .. فإذا سأله أحد في أمر لم يقع ولكنه متوقع، قال له: "سل عما يكون ودع ما لا يكون". ذلك أنه كان يرى أن كثرة الفروض مفسدة، وفيما يقع من الحوادث والقضايا الجديدة ما يكفي وما يغني عما هو متوقع .. وعندما تقدمت به السن، عقد حلقات الدرس في بيته الواسع ذي الأثاث الفاخر. ترك مجاملة الناس التي اشتهر بها "وترك حضور الجنازات، فكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة" وكان إذا عوتب في ذلك قال: "ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره".
ذلك أنه لم يفض لأحد بسر مرضه الذي أقعده عن المسجد والناس إلا فراش الموت وكان مرضه هو سلس البول. وعندما اشتد عليه المرض بعد أن جاوز الثمانين كره أن يخرج من داره. وكان في بيته مجلسان في السنوات الثماني الأخيرة من حياته: فقال أحد تلاميذه: "إنه كان عندما انتقل درسه إلى بيته، إذا أتاه الناس تخرج لهم الجارية فتقول لهم: يقول لكم الشيخ أتريدون الحديث أم المسائل؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأفتاهم، وإن قالوا الحديث قال لهم اجلسوا، ودخل مغسله فاغتسل وتطيب، ولبس ثيابا جددا، ولبس ساجه (وهي غطاء للرأس كالتاج) وتعمم، فتلقى له المنصة، فيخرج إليهم وقد لبس وتطيب وعليه الخشوع، ويوضع عود فلا يزال يبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكم كان حريصا على أن ينتقي الأحاديث. وعلى الرغم من كثرة الأحاديث التي حفظها، فلم يكن يحدث بهن جميعا ..
ولقد قيل له إن أحد الفقهاء يحدث بأحاديث ليست عندك فقال مالك لو أني حدثت بكل ما عندي لكأني إذن لأحمق ثم أضاف: لقد خرجت مني أحاديث لوددت لو أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها "من أجل ذلك قال عنه تلميذه الشافعي: إذا جاء الحديث فمالك النجم الثاقب".
وبهذا الحرج في الحديث كان يتحرج في الفتوى .. فلا يقول هذا حلال وهذا حرام إلا إذا كان هناك نص قطعي الدلالة. وفيما عدا هذا يقول: أظن ثم يعقب فتواه مستشهدا بالآية الكريمة: "إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين". ولقد عاتبه بعض تلاميذه على تحرجه في الفتوى، فاستعبر وبكى وهو يقول: إني أخاف أن يكون لي منها يوم وأي يوم. وقال يوما لأحد تلاميذه ليس في العلم شيء خفيف. أما سمعت قول الله تعالى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }( المزمل، الآية:6) . فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة".
ولقد عاتبه بعض الناس في عنايته الفائقة بأثاث البيت، وبملبسه ومأكله فقال: "أما البيت فهو نسب الإنسان. ثم إني لا أحب لامرئ أنعم الله عليه إلا يرى أثر نعمته وخاصة أهل العلم". كان يرى في البيت أن البيت الجيد راحة للنفس والبدن، وأن الطعام الجيد يعين على نشاط الذهن، وأن حسن الثياب يكسب المرء ثقة بالذات وإحساسا بالسعادة.
وهكذا عاش يستمتع بزينة الحياة الدنيا التي أحلها الله لعباده والطيبات من الرزق، نائيا بنفسه عن السياسة، راغبا عن مصاولة الحكام وإن كانوا ظالمين حتى لقد أفتى بوجوب الطاعة للحاكم حتى إن كان ظالما. ولا ينبغي الخروج عليه بالفتنة بل يسعى إلى تغييره بالموعظة الحسنة وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ظلم ساعة خلال الفتنة شر من جور حاكم ظالم طيلة حياته. والحاكم الظالم يسلط الله عليه ما هو شر منه والله يرمي ظالما بظالم. وعلى هذا سار أيام الأمويين، ثم في دولة العباسيين .. يحاول جهده أن يكون على الحياد.
ولكنه على الرغم من كل شيء لم يعش بمنجاه عن بطش الذين أفتى بوجوب طاعتهم من الحكام مهما يظلمون. لم يهاجم الأمويين فأصابه منهم خير كثير ثم جاء العباسيون فزادوه من الخيرات .. وأصبح الإمام مالك رجلا غنيا، يعيش في دعة وسعة ويمنح كل وقته للعلم، ذلك أنه لم يمدح علي بن أبي طالب ولم يساند حقه في الخلافة .. وكان مدح علي هو ما يغيظ الخلفاء الأمويين العباسيين. وآثر الحياد، وترك السياسة، وأشفق على نفسه وعلى أهل المدينة بما رأى في شبابه من مذابح بعد ثورة الخوارج ونهضة الإمام زيد بن علي زين العابدين، على أن السياسة لم تتركه ولم ينفعه حياد.!.
وهو يشرح في المسجد الحديث الشريف: ليس على مستنكره يمين .. "ويبين للناس أن من طلق مكرها لا يقع منه طلاق، إذ بأحد أحفاد الحسن بن علي وهو محمد النفس الذكية، يثور على الخليفة المنصور، لأنه أخذ البيعة لنفسه قسرا فبايعه الناس مستكرهين. وإذ ببعض الناس في المدينة ينتقض بيعته للمنصور وينضم لمحمد النفس الزكية إعمالا لهذا الحديث وتطبيقا للسنة. وأرسل والي المدينة إلى الإمام مالك أن يكف عن الكلام في هذا الحديث، وأن يكتمه عن الناس، لأنه يحرضهم على الثورة ونقض البيعة.
ولكن الإمام مالك أبى أن يكتم هذا العلم، فكاتم العلم ملعون وظل يفسر الحديث غير آبه بتهديد والي المدينة، وأطلق الحكم الذي جاء به الحديث على كل صور الإكراه في المعاملات والحياة. فأمر والي المدينة رجاله فضربوا مالكا أسواطا، ثم جذبوه جذبا غليظا من يده، وجروه منها فانخلع كتفه .. ثم أعادوه إلى داره وألزموه الإقامة بها لا يخرج منها حتى للصلاة ولا يلقى فيها أحداً.
وفزع الناس في المدينة إلى الله يشكو الظالم، وثار سخطهم على الوالي والخليفة نفسه وغضب الفقهاء والعلماء من كل الأنصار والأقطار. فهاهو ذا عالم يلتزم الحياد، ينأى بنفسه عن السياسة ودوران دولاتها، ويعكف على العلم ويشرح للناس حديثا نبويا صحيحا، ويبصرهم بأحكام هذا الحديث فإذا بالدولة بكل قوتها تبطش به، وهو عالم لا يملك إلا قوة العلم وما يستطيع بعد كتمان هذا العلم؟…
وأخذ الناس يلعنون والي المدينة والخليفة المنصور الذي ولاه ويتهمون الخليفة نفسه. وقمع المنصور ثورة النفس الزكية، وقتله هو وآل بيته وصحبه وأتباعه شر قتلة ومثل بأجسادهم .. واستقر له الأمر. فاستقدم الخليفة المنصور مالكا ليسترضيه ولكن مالكا لم يقم ولم يبرح محبسه في منزله.
فأمر المنصور والي المدينة فأطلق سراح مالك .. ثم جاء المنصور بنفسه من العراق إلى الحجاز في موسم الحج، واستقبل الإمام مالك بن أنس. وقال الخليفة معتذرا: "أنا أمرت بالذي كان ولا عملته. أنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، وإني أخالك أمانا لهم من عذاب، ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة فإنهم أسرع الناس إلى الفتن". ثم أضاف الخليفة أنه استحضر والي المدينة مهانا وحبسه في ضيق، وأمر بألا يغال في إهانته، وأن ينزل به من العقوبة أضعاف ما نال منها الإمام مالك ابن أنس. فقال الإمام مالك: "عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه فقد عفوت عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنك".
قال الخليفة المنصور: "فعفا الله عنك ووصلك" .. ووهبه المنصور مالا كثيرا وهدايا ثمينة ثم أضاف:
"إن رابك ريب من عامل (وال) المدينة أو مكة أو عمال (أي ولاة) الحجاز في ذاتك أو ذات غيرك، أو سوء أو شر بالرعية فاكتب إلي أنزل بهم ما يستحقون". على أن الإمام مالك بن أنس لم يكتب إلى الخليفة، على الرغم مما سمع وعاين من شر بالرعية في جميع أنحاء الحجاز، بل اكتفى بتوجيه النصح والموعظة الحسنة إلى هؤلاء الولاة.
على أن الخليفة المنصور لم يترك الحجاز حتى طلب من الإمام مالك أن يضع كتابا يتضمن أحاديث الرسول وأقضية الصحابة وأثارهم، ليكون قانون تطبقه الدولة في كل أقطارها بدلا من ترك الأمر لخلافات المجتهدين والقضاة والفقهاء .. وكان ابن المقفع الكاتب قد أشار على الخليفة من قبل بإصلاح القضاء وتوحيد القانون في كل أرجاء الدولة.
قال المنصور للإمام مالك: "ضع للناس كتابا أحملهم عليه" فحاول مالك أن يعتذر عن المهمة ولكن المنصور ألح:
ضعه فما أحد اليوم أعلم منك" فقال مالك: "إن الناس تفرقوا في البلاد فأفتى كل مصر" أي قطر" بما رأى فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول "فقال الخليفة المنصور: "أما أهل العراق فلا أقبل منهم، فالعلم علم أهل المدينة" فقال مالك: "إن أهل العراق لا يرضون علمنا" فقال المنصور: "يضرب عليه عامتهم بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط".
واقتنع مالك برأي الخليفة، لأنه هو نفسه كان فكر من قبل، أن يجمع الأحاديث النبوية في كتاب يضم مع الأحاديث أثار الصحابة، ليجتمع المجتهدون والفقهاء والقضاة على رأي واحد وانقطع الإمام عاكفا على إعداد الكتاب وأخذ يكتب وينقح ويحذف أضعاف ما يثبت، وينقح ما يثبت وأسمى كتابه الموطأ.
والموطأ لغة هو المنقح.
ولبث ينقح في الكتاب سنين عددا، وخلال تلك السنين أخرج منافسوه من علماء المدينة كتبا كثيرة في الأحاديث وأثار الصحابة أسموها الموطأت، وسبقوه بها .. فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله. وأخرجوا ما عملوا فقال: "إئتوني بما عملوا .. فاتوا به فلما فرغ من النظر فيها، قال: "لا يرتفع إلا ما أريد به وجه الله. أما تلك الكتب فكأنما ألقيت في الآبار وما يسمع بشيء منها يذكر بعد ذلك ..وفي الحق أن شيئا من تلك الكتب لم يذكر بعد، وكأنما ألقيت في الآبار .. أما كتاب الموطأ فقد أنجزه مالك بعد أن قضى المنصور وجاء بعده خليفة وخليفة ثم جاء هارون الرشيد فأراد أن يعلق كتاب الموطأ في الكعبة ولكن الإمام مالك بن أنس أبى.
والإمام مالك بن أنس من أفقه الناس بالحديث وأثار الصحابة .. والرأي عنده سنة فقد وعى
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي
ونقل الإمام مالك عن الرسول أنه عليه السلام كان يشاور أصحابه ويأخذ برأيهم .. وحفظ الإمام مالك من آراء الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إليه رجل ينكر ولده لأن امرأته جاءت به أسود والأب أبيض والأم بيضاء، فقال له الرسول عليه السلام هل لك إبل؟ قال: نعم قال: فما ألوانها قال: "حمر" فسأله عما إن كان فيها "رمادي" فقال الرجل: "نعم" فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم من أين؟ فقال لرجل: "لعله نزعه عرق. فقال الرسول عليه السلام وهذا لعله نزعه عرق"
وعلى مالك هذا الاجتهاد من الرسول، ووعى صورا عربية أخرى من أخذه بمشورة الصحابة فيما لم ينزل فيه وحي، فاجتهد مالك هو الآخر معتمدا على حسن الفقه بالقرآن الكريم، وعمق العلم بالناسخ والمنسوخ، ودلالات النصوص ظاهرها وخفيها، وأسرار الأحكام في القرآن، وحسن معرفة الأحاديث وأثار الصحابة .. وقد عرف كل أثار الصحابة إلا فقه الإمام علي بن أبي طالب، إذ صادره الأمويين وحجبوه، وطارده العباسيون .. غير أن ذلك الفقه كان في حدود البيت وشيعتهم، وفي كتب يتداولونها خفية.
ولقد أتيح للإمام مالك أن يعرف الإمام جعفر الصادق صداقة وتدارساً معا .. وحمل كل واحد منهما تقديرا عظيما لصاحبه. وفي الحق أن الإمام مالك قد أفاد من صحبة الإمام جعفر الصادق وأخذ الاعتماد على العقل فيما لم يرد فيه نص غير أنه أسماه بالاستحسان أو المصلحة المرسلة فقضى بما يحقق مقاصد الشريعة من توفير المصلحة وجلب النفع ودفع الضرر .. واعتبر المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة، ووازن بين المصالح وأولاها بالرعاية لتكون هي مناط الحكم. وكما أعطى أعمال العقل لفقه الإمام الصادق ثراء وتجددا، فقد أثرى الفقه المالكي باعتماد المصلحة أساسا للحكم حيث لا نص ..
ويقول الإمام مالك عن علاقته بالإمام جعفر الصادق: "كنت آتى جعفر بن محمد، وكان كثير المزاح والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم أخضر وأصفر. ولقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليا وإما صائما وإما يقرأ القرآن، وما رأيته قط يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على الطهارة ولا يتكلم فيما لا يعنيه. وكان من العلماء الزهاد العباد الذين يخشون الله. وما رأيته قط إلا يخرج الوسادة من تحته ويجعلها تحتي".
أفاد الإمام مالك من صحبة الإمام جعفر وأخذ عنه كثيرا من طرق استنباط الحكم ووجوه الرأي وأخذ عنه بعض الأحكام في المعاملات، وأخذ الاعتماد على شاهد دون شاهدين، إذا حلف المدعي اليمين كما أخذ من الإمام الصادق جعفر بن محمد أخذ من أبيه الإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب .. لزم مالك مجلس الإمام محمد الباقر وابنه الإمام جعفر وتعلم منهما على الرغم من أن رأيه في الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لا يرضي آل البيت وشيعتهم .. فقد فضل عليه أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم وجعل الإمام عليا كرم الله وجهه ورضى عنه كسائر الصحابة ..
ولئن أغضب هذا الرأي آل البيت والشيعة جميعا، أنه ليرضي الخلفاء الأمويين الذين أنكروا حق علي ونازعوه الخلافة واغتصبوها منه، وذبحوا الحسين وآله في كربلاء، وذبحوا كل من ثار من آل البيت كزيد بن علي بن الحسين .. وهذا الرأي يرضى الخلفاء الأمويين كما أرضى من بعدهم الخلفاء العباسيين الذين رأوا أن الخلافة تحق لبني العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحق لبني علي وفاطمة .. وأغروا أحد الشعراء بأن يقول إن بني البنات (يعنون فاطمة الزهراء رضي الله عنها) لا يرثون بل يرث الأعمام (يعنون العباس) أني يكون وليس بكائن لبني البنات وارثة الأعمام وقد كان رأي مالك بن أنس حريا، بأن يعطف عليه قلوب الخلفاء الأمويين والعباسيين وهذا ما كان.
غير أن الإمام مالك بن أنس لم ينافق الخلفاء. وإذا كان لم يجهر بالاحتجاج على مظالمهم، فقد اختار أن يوجه إليهم الموعظة الحسنة كلما اقتضى ـ كما لقيهم في موسم الحج أو في زيارة الحرم النبوي. وأنكر عليه أحد تلاميذه أنه يتصل بالأمراء وبالخلفاء لأنهم ظالمون وما ينبغي أن يتصل بهم رجل صالح كالإمام مالك بن أنس .. فرد مالك: "حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئا من العلم والفقه أن يدخل على ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر" وربما يستشير السلطان من لا ينبغي فخير أن يدخل عليه العلماء الصالحون ..
وعندما ألح عليه تلاميذه في إنكار علاقاته بالخلفاء والأمراء قال: "لولا أني آتيتهم ما رأيت للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة سنة معمول بها". وفي الحق أنه كان يعظهم احسن موعظة، الموعظة الحسنة لأولي الأمر خير من الثورة عليهم واشتعال الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة فقد تلتهم الظالمين والضحايا الأبرياء جميعا. كان مالك .. يسر النصيحة إلى ولي الأمر بحيث لا يحرجه أمام الرعية ويصوغها بحيث تقع موقعا حسنا. رأى أحدهم يذهب إلى الحج في موكب فخيم وسرف الترف باد عليه فقال له: كان عمر بن الخطاب على فضله ينفخ النار تحت القدر حتى يخرج الدخان من لحيته وقد رضى الناس منك بدون هذا.
وقال لآخر: "افتقد أمور الرعية، فإنك مسئول عنهم، فإن عمر بن الخطاب قال والذي نفسي بيده لو هلك جمل بشاطئ الفرات ضياعا لظننت أن الله يسألني عنه يوم القيامة". وكتب خليفة آخر: "أحذر يوما لا ينجيك فيه إلا عملك وليكن لك أسوة بمن قد مضى من سلفك "وعليك بتقوى الله".
وكان أحد الولاة يزور الإمام مالك بن أنس في بيته، ويسأله النصيحة .. فأثنى على الوالي بعض الحاضرين، فغضب مالك، وكان بعيد الغضب، وصاح في الوالي ـ وقلما كان يصيح ـ: "إياك أن يغرك هؤلاء بثنائهم عليك، فإن من أثنى عليك وقال فيك من الخير ما ليس فيك، أوشك أن يقول فيك، من الشر ما ليس فيك .. إنك أنت أعرف بنفسك منهم ..
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احثوا التراب في وجوه المداحين"
وكان عليه الصلاة والسلام يعظ صاحبته أن كثرة المدح تضيع الممدوح.
وعندما بلغ مالك من الكبر عتيا كانت شهرته طبقت الآفاق حقا، وكان يلزم بيته في السنوات الأخيرة لا يخرج إلا نادراً واضطر إلى أن يتخذ له حاجبا ينظم دخول الناس كما يصنع الخلفاء، وقد اتخذ له بيتا آخر واسعا غير دار بن مسعود فيه عدد من الجواري الحسان والخدم. وكان يحرجه أن يرفض استقبال أحد، وله أصدقاء كثير. واستخلص العبرة من كل حياته الماضية وأفضى بنصيحة إلى أحد تلاميذه ليبثها في الناس من بعده:
"إياكم ورق الأحرار"
سأله تلميذه: "وما رق الأحرار؟" قال الإمام مالك "كثرة الأخوان .. فإن كنت قاضيا ظلمت أو اتهمت بالظلم، وإن كنت عالما ضاع وقتك". وكان مالك يشكو كثرة الأصدقاء، إذ لا حيلة له معهم، فلا هو يستطيع أن يردهم عنه، ولا هم يتركونه يعمل أو يعتكف في داره للعلم كما ينبغي له ..
ومهما يكن من أمر فقد أغنى مالك الفقه الإسلامي برأيه في المصلحة وجعلها مناط الأحكام وأساسه فيما لم يرد فيه نص ملزم بالإباحة أو المنع، وفي أخذه بالذرائع فما يؤدي إلى الحلال حلال، وما يؤدي إلى الحرام حرا .. فأنت حر في ملكك ولكنك في حريتك يجب ألا تضر غيرك فإذا حفرت بئرا خلف بابك تؤدي إلى سقوط الداخل إليك وهلاكه فهذا حرام .. لأن حفر البئر ذريعة لإهلاك الغير فهو ممتنع .. والبيع بأقساط ترفع الثمن الأصلي الذي تدفعه معجلا ذريعة إلى الربا فهو حرام ويجب على ولي الأمر منعه .. فالأقساط يجب أن تكون ذريعة للتيسير على المشتري لا ذريعة لقهرة على اقتراف الربا، وحمله على دفع ثمن اكبر.
وبهذا النظر حرام الاحتكار لأنه يحقق مصلحة لفرد أو لأفراد قلائل ويجلب الضرر على الآخرين .. فالمحتكر يغالي في السعر كيفما شاء، وعامة الناس مضطرون إلى قبول ما يفرضه وفي هذا ضرر بهم كبير والمحتكر ملعون، بنص الحديث الشريف. وقد أخذ الإمام مالك في فتاواه وآرائه بالقرآن والسنة والإجماع وعمل أهل المدينة ورعاية المصالح، أفتى بأمور كثيرة خالفه فيها بعض العلماء والفقهاء والمجتهدين.
فقد أفتى مالك بحق الزوجة في الطلاق إذا لم ينفق عليها زوجها، أو إذا ظهر لها عيب فيه لم تكن تعرفه وقت العقد .. عيب أي عيب جسديا كان أو خلقيا .. وأفتى أن ديون الله ـ كالزكاة ونحوها وما يمكن أن نسميه بالضرائب في أيامنا هذه ـ لا تؤخذ من التركة إلا إذا اعترف المورث بها قبل وفاته .. وحتى إذا ثبتت هذه الديون بأي طريق آخر من طرق الإثبات، فديون العباد مقدمة عليها .. لأن العباد "والأفراد" يضارون بعدم دفع ديونهم اكثر من الدولة .. أما عن ديون الله كالزكاة فالله غفور رحيم.
وأفتى بأن الحمل قد يستمر في بطن أمه ثلاث سنوات. ولقد سخر منه بعض خصومه وزعموا أنه يشجع على الفساد نساء غير صالحات من المطلقات أو ممن يغيب أو يموت عنهن الأزواج. وأفتى بأن من يبني جدارا في ملكه ليمنع الشمس والهواء عن جاره، معتد آثم يجب هدم جداره، وإن زعم أنه يقصد حماية أهل بيته من أعين الجيران.
وأفتى بعدم جواز صيام ستة من شوال (وهي ما نسميه بستة الأيام البيض). ورفض الاعتراف بالحديث الخاص بهذا الصيام وأنكره .. وصيام ستة أيام من شوال. يؤدي إلى زيادة رمضان. وهذا الامتناع عن صيام ستة من شوال هو ما يعمل به أهل المدينة .. سنة عن الرسول أخذها آلاف عن آلاف أولى بالاتباع من حديث نقله آحاد عن آحاد وأفتى مالك بوجوب وضع ضوابط لحق الرجل في الطلاق وفي الزواج بأكثر من واحدة بحيث لا تضار الزوجة أو الأولاد، وبحيث تكون مصلحة الأسرة هي العلة والأساس والأجدر بالرعاية.
وأفتى مالك بأن الأعراف والعادات يجب احترامها في استنباط الأحكام ما لم تتعارض مع نص صريح قطعي الدلالة. وأفتى بأن المحظور يجوز أن يقترف لأن فيه دفعا لمضرة اكبر .. أنه ليرى الشريعة مبنية على جلب المنافع والبعد عما يكون طريقا إلى المفاسد .. فكل وسيلة من وسائل العمل يجب أن ينظر إلى نتائجها فإن كانت النتيجة مصلحة فالعمل مباح وإن كانت فسادا وجب منع هذا العمل.
ولقد ذاع فقه مالك في كل الأمصار والأقطار، وكان في هذا الفقه ما يحمل له عناصر التجديد كالأخذ بمراعاة تحقيق المصلحة إن لم يوجد نص يبيح أو يمنع، وهو نظر أخذه من فقه الإمام جعفر الصادق بإعماله العقل في استنباط الحكم حيث لا يكون نص، وحكم العقل يقضي بالبحث عما يجلب المنفعة ويبعد الضرر. تحقيقا لمقاصد الشريعة.
وقد نما فقه مالك واتبعه وأغناه كثير من المفكرين والمجتهدين والفقهاء من بعده منهم فليسوف الأندلس ابن رشد .. غير أن بعض معاصري مالك عارضوه معارضة عنيفة وخالفه ونقده بعض أصحابه منهم الليث بن سعد فقيه مصر، وتلميذه الشافعي .. ولقد أرسل إليه صاحبه الليث بن سعد رسالة طويلة ذكره فيها بأن عمل المدينة لم يعد سنة بعد ولا يمكن اتباعه بعد عصر الرسول والخلفاء الراشدين فالصحابة خرجوا من المدينة بعد مقتل عمر، وتفرقوا في الأمصار، وبثوا فيها فقههم.
لقد كان أوائل أهل المدينة في زمن الرسول عليه السلام هم خير الأوائل ما أو أخرهم في زمن مالك، فلم يعودوا كذلك بعد .. ولو ينس الإمام الليث بن سعد فقيه مصر أن يسأل صاحبه الإمام مالك بن أنس إن كان في حاجة إلى مال! ومهما يكن من أمر الخلاف بين مالك وتلاميذه، فقد عاش مذهب الإمام مالك وتجدد حتى لقد أخذت قوانين الأحوال الشخصية في مصر منذ مطلع هذا القرن الميلادي حتى القوانين الأخيرة 1979 ميلادية من هذا المذهب. على أن الذين خالفوا الإمام مالك بن أنس من صحبه وتلاميذه كانوا يحملون له كل الإجلال والتقدير والاحترام ..
قال عنه تلميذه الشافعي: إذ ذكر الحديث فمالك هو النجم الثاقب. أما صاحبه الليث بن سعد الذي صاحبه عمرا طويلا، وراسله، ووصله بالمال والهدايا، واختلف معه آخر الأمر، فقد قال عنه أثناء الخلاف وعلى الرغم من الخلاف "مالك وعاء العلم".